نبذة عن الكتاب
نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة
تأليف
محمد علي دبوز
أستاذ الأدب والتاريخ في معهد الحياة بالجزائر
الجزء الأول
الطبعة الأولى
1385هـ_1965م
المطبعة التعاونية
الطبعة الثانية
1433 هـ - 2013 م
عالم المعرفة للنشر والتوزيع
قامت وزارة المجاهدين بطبعه بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر
مقدمة الكتاب
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد المبعوث إلى الخلق أجمعين، وعلى كل الأنبياء والمرسلين.
عزيزي القارئ، لقد وعدتك في مقدمة الجزء الثالث من كتابي «تاريخ المغرب الكبير» أن أعجل إليك بحلقة من تاريخ الجزائر مفقودة لا تجدها في كتاب، وهي: تاريخ نهضة الجزائر الحديثة التي أسفرت عن ثورتها المباركة، وجهادها للاستعمار الفرنسي الصليبي الغشوم في الميادين الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، تلك المعارك الكبرى التي سقط فيها الشهداء كثيرون، وقدمت فيها الجزائر تضحيات كبرى، واستمرت قرنا كاملا من الزمان، وكان النصر فيها حليف الجزائر، فاستطاعت أن تثور فتتحرر، ولولا انتصارها في جهادها الأول للاستعمار، سيما في الميدانين الاجتماعي والثقافي، ما استطاعت أن تزحزح أقدام المستعمرين التي كانت تطأ على رقابها لتزهق أنفاسها، وما تكونت فيها تلك الطاقة الجبارة التي صارعت فيها المستعمرين الأقوياء في ثورتها فصرعتهم.
لقد كان المستعمرون الفرنسيون يحاربون تاريخ المغرب عامة، القديم منه والحديث، ويمنعون أبنائهم من كتابة تاريخهم فيكتبونه هم كما يريدون، فيصورون ماضينا لنا كما تسول لهم أحقادهم الصليبية، وعداوتهم الموروثة للمغرب وكما تريد أغراضهم الاستعمارية.
وكانت كتبهم في تاريخ المغرب القديم والحديث مملوءة بالأكاذيب والأغلاط والسموم، فأضرت بأبنائنا في مدارسهم الاستعمارية، وأضرت بكتّابنا ومدرّسينا الذين يعتمدون عليها في التأليف والتدريس، وبالمؤلفين المدرسيين من إخواننا المشارقة الذين يتوقون إلى معرفة تاريخ المغرب والجزائر الحديث فلا يجدون إلا تلك الكتب الفرنسية، فيعتمدون عليها، فيرون الأمور كما يريد الاستعمار، فتبدو لهم الأشياء سوداء وهي بيضاء ناصعة البياض، ويردون في كتبهم ودروسهم - عن حسن النية - من سموم الاستعمار الخفية التي يريد أن يقتل بها المغرب والجزائر، ويخبطون خبط عشواء في تاريخ المغرب والجزائر، سيما الحديث منه الذي لا يجدونه واسعا إلا في الكتب الفرنسية، إن اللوم فيما يقعون فيه ينصب علينا نحن أبناء الجزائر والمغرب، لأننا لم نسرع بعد الاستقلال فنكتب تاريخنا الصحيح الذي يفيد أبنائنا وإخواننا، ويجعلهم ينهلون من أصفى وأعذب مورد، ويتنكبون كتب المستعمرين.
وكان الاستعمار لتاريخ نهضة المغرب والجزائر الحديثة التي تزلزل أقدامه لتقتلع جذوره من المغرب أكثر حربا، وكانت صحافته وكتابه يتجاهلونها ليوحوا باحتقارها إلينا، وإذا كتبوا عنها شيئا فالأكاذيب التي يبلغون بها أغراضهم في الحرب العوان لها ليقضوا عليها، لقد كانوا يرون تلك النهضة حربا عنيفة تشهر عليهم في كل الميادين، وزعمائها وأنصارها أعدائهم الألداء الذين يعملون للإجهاز عليهم، فبالغوا في حرب النهضة وزعمائها، واتخذوا كل وسيلة لقتلها في النفوس، فمنعوا الحديث عنها وعن رجالها، والتأليف فيها، وكان التأليف في تاريخ الجزائر الحديث على النحو الذي توجبه الأمانة العلمية والوفاء للوطن أكبر جريمة يرتكبها المرء في نظر الاستعمار، يُصادر الكتاب، ويُحاكم المؤلّف، وتنزل عليه أقسى العقوبات. فتحامى كُتّابنا التأليف في موضوع تاريخ الجزائر الحديث، سيما في النهضة وزعمائها، ومجاهدتهم للاستعماروشروره، فبقي تاريخ الجزائر الحديث من الاحتلال الفرنسي إلى قيام الثورة مفقودا لا تجده إلا في صدور الشيوخ والعلماء المسنين الذين شاهدوا ورووا عن آبائهم وأجدادهم ومشايخهم، وفي مذكرات علماء الجزائر ومؤلفاتهم التي لا يستطيعوا إبرازها في عهد الاستعمار، فبقيت مخطوطات مخبأة إلى اليوم.
إننا إذا عذرنا أبنائنا الجزائر في عدم كتابة تاريخنا في عهود الاستعمار للأسباب التي ذكرنها، فلن نعذر اليوم في عهد الاستقلال، لقد زالت الأسوار التي تمنع إخواننا في المشرق العربي وفي العالم الإسلامي عنا، فأصبحوا أكثر اهتماما بنا، ولما وقعت ثورتنا المباركة فرفعت رؤوسهم، وأذلت المستعمرين ازدادوا إعجابا بالجزائر، وأقبل كتابه عليها يريدون أن يعرفوا حقيقتها، والعوامل التي كونت فيها تلك الطاقة الجبارة التي صارعت بها المستعمرين الفرنسيين وحلفائهم الكثيرين، وأسلحة الحلف الأطلسي فهزمتها كلها؛ فلم يجدوا إلا أشياء قليلة من تاريخنا الحديث في صحافتنا العربية التي كان الاستعمار يقيدها ويُلجمها، ويضيق أفقها، وإلا هذه الكتب الفرنسية التي يمتلئ معظمها بالأكاذيب، فبقي العلماء المحققون منهم حائرين يريدون المعرفة للإطمئنان، وللتأليف والتدريس، فلا يجدون المصادر الوافية والمادة الصحيحة.
ما هي جذور الثورة الجزائرية؟ ما الذي جعل هذه الأمة الجزائرية بعد خمولها أن تنهض، وتصارع، وتأتي بالمعجزات، وتنتصر على أعدائها الأقوياء؟ ما الذي أنهضها؟ وما هو الجهاد الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يسبق دائما حروب التحرير، فيُشفي الأمة من أمراضها، ويدججها بالطاقة الكبرى التي تثيرها على العدو المستعمر فتكسر أغلاله وتتحرر.
هذه هي الأسئلة التي تغص بها صدور إخواننا في المشرق وفي كثير من أنحاء الدنيا، وسيسأل أبنائنا هذا السؤال إذا أرادوا أن يعرفوا تاريخ وطنهم الحديث، فلا يجدون الجواب الشافي، فلا يسعهم إلا الإلتجاء إلى الكتب الفرنسية المسمومة، وإلى الكتب العربية الصحفية الهزيلة المقلّدة لتلك الكتب، فينشئون على الخطأ في العقيدة في أجدادهم، وعلى الجهل بماضيهم المجيد، فلا يكونون أبنائنا البررة الأوفياء، بل يعتقدون فينا وفي وطنهم العظيم ما يريد الاستعمار.
إن هذه الأسباب وما أراه من سرعة فقدان مصادر تاريخ الجزائر الحديث، وانتقال مشايخنا المسنين إلى ربهم، وهم مصادرنا، جعلني أعجل بكتابة هذه الفترة المهمة البارزة المجهولة من تاريخ الجزائر، إن كل عام يمر يذهب بمصادر كبيرة من علمائنا، فهذا أستاذنا الجليل الشيخ البشير الإبراهيمي يذهب إلى ربه، فنفقد مادة غزيرة من تاريخنا الحديث لا توجد إلا عنده، سيما تاريخه هو، وأسباب عبقريته، ومراحل جهاده، وهؤلاء مشايخنا من جيله الذي ندعو لهم بطول البقاء على أثره، إما إلى الشيخوخة المزمنة التي تعوقهم عن الرواية، وإما إلى الجنة فنفقدهم.
وقد ابتدأت في جمع مادة نهضة الجزائر الحديثة، وأدوّن ما أروي، وأنقب عن الوثائق منذ خمس عشرة سنة، من سنة 1371هـ/1952م إلى اليوم، وكنت أغتنم وجودي مع المشايخ الذين تزعموا نهضتنا الحديثة أو شاركوا فيها وحفظوا أخبارها فأروي عنهم.
وكان أول من رويت عنه الكثير من تاريخ نهضتنا الحديثة في الشمال والجنوب أستاذي العلامة الجليل الشيخ إبراهيم بن عمر بيّوض حفظه الله، لقد آتاه الله ذاكرة قوية لا تنسى، وذكاء وقادا يجعله على علم تام بالحوادث وأسبابها، وكان هو من زعماء نهضتنا الحديثة منذ أربعين سنة، وأدرك منشئيها وحفظ أخبارهم وصراعهم للاستعمار وأذنابه، فجلست إليه في سنة1371هـ/1952م وبعدها ليالي وأيام كثيرة فحدثني بما أريد من تاريخ نهضتنا، وكانت آخر مجالسي معه في الرواية في شهر صفر الماضي 1385هـ/يونيو 1965م.
وكان المجلس الواحد يستمر ثلاث ساعات أحيانا، وكنت أدوّن أكثر ما أستطيع في مجلسه خوفا من النسيان، فوجدت وقتي معه يضيع، فاشتريت أحسن آلة لتسجيل الصوت، فاعتمدت عليها في مجالسه، وكنت أنقل بعد كل مجلس حديثه حرفيا، فظفرت بمادة غزيرة في التاريخ لا تجدها في الكتاب.
إن العلامة الجليل الشيخ بيوض ليس زعيم النهضة الحديثة في جنوب الجزائر فحسب، بل هو من زعمائها في الشمال أيضا، إنه من الأعضاء الإداريين الأولين الذين انتخبتهم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لمّا نشأت، وهو من الشخصيات البارزة التي علمت في جد وحزم ودهاء في جلسات التأسيس، فنجحت في تكوين جمعية العلماء رغم دسائس الاستعمار وأذنابه الذين علموا في قوة لمنع نشوئها، وقد وكلت إليه الجمعية هو والشيخ البشير الإبراهيمي وضع قانونها الأساسي.
وكانت صداقته وعلاقته وثيقة بزعماء النهضة في الشمال: الشيخ باديس، والشيخ الإبراهيمي، والشيخ العقبي وغيرهم، وكان يحفظ تاريخ النهضة في الشمال ويعرف رجالها، كما يحفظ تاريخ الجنوب وأنباء نهضته، وكان ثقة حفاظا، ذكيا، كثير المشاهدة، لذالك ابتدأت به في الرواية، وقد فتح لي حفظه الله خزانته المملوءة بالوثائق والصور التاريخية المهمة، فأخذت منها ما أردت وسافرت به إلى الشام.
ثم اغتنمت فرصة العطلة الدراسية في الصيف، فجلست إلى الشيخ أبي اليقظان الحاج إبراهيم بن الحاج عيسى حفظه الله ستة أسابيع كاملة، في كل يوم نحو ساعتين في الضحى في بستانه بالقرارة،وحدثني بتاريخه وجهاده العلمي الصحفي الطويل في الجزائر وتونس، وما حفظه من تاريخ النهضة وشاهده وشارك فيه، وكنت أدوّن في كل مجلس أكثر ما أستطيع مما أخاف نسيانه، فتكونت لي مادة غزيرة من تاريخ النهضة في الشمال والجنوب، والشيخ أبو اليقظان هو شيخ الصحافة العربية الجزائرية المجاهدة، ومن أعضاء الإداريين الأولين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أعيد انتخابه للإدارة مرارا، وظل فيها إلى أن استعفى لكبر السن، وإيثاره العكوف على التأليف والاستقرار في بلده، وهو أول من كون أول بعثة علمية جزائرية منظمة في تونس سنة 1917م وقد ابتدأ الجهاد الوطني منذ طرّ شاربه، وقد آتاه الله ذاكرة قوية، وعناية بكتابة المذكرات وتدوين الحوادث بنثره وشعره، وعناية كبرى بالتاريخ، فخزانته حافلة بالوثائق القديمة، وبمؤلفاته التي لم تطبع، ولقد فتح لي خزانته حفظه الله، فأخذت كل ما يتصل بموضوعي من وثائق وصور، ومن مؤلفاته المخطوطة النفيسة، ثم سافرت بها إلى الشام.
وجلست إلى الشيخ البشير الإبراهيمي في صيف سنة 1382هـ/1962م في داره بمصر الجديدة في القاهرة، فسألته عن تاريخه وأطواره في الدراسة ومشايخه فحدثي طويلا بما أريد حتى قطعه التعب، فودعته على نية أن أرجع إليه ليحدثني بما عنده من تاريخ نهضتنا فسافر، ثم وجدته في الجزائر طريح الفراش لا يقوى على الكلام رحمه الله.
وجلست إلى العلامة الجليل المجاهد الشيخ إبراهيم أطفيش في خريف سنة 1383هـ/1963م في داره في المطرية بالقاهرة، فحدثني بتاريخه وجهاده وبما عنده من تاريخ عمه الشيخ أحمد أطفيش وغيره من أئمة النهضة الأولين في الشمال والجنوب، والشيخ إبراهيم أطفيش من يعرف المغرب والمشرق جهاده الوطني، إنه من زعماء النهضة الحديثة نفاه الاستعمار من المغرب لجهاده، ولما رأى من شجاعته وآثاره الحسنة، سيما في حزب الدستور القديم في تونس، وهو مؤرخ وله ذاكرة قوية، شهد وروى، فحدثني كثيرا في جلسات عدة دونت أحادثيه حفظه الله.
وجلست إلى الشيخ نعيم النعيمي في داره في قسنطينة في الربيع الماضي سنة 1385هـ/1965م فدام مجلسنا نجو أربع ساعات، وكان حديثه متصلا، وآلة التسجيل معي تسجل، فحدثني بما أريد عن نهضة الشمال ورجالها الأولين،والشيخ نعيم النعيمي من الرواة الكبار سيما في التاريخ، له ذاكرة قوية لا تنسى، وهو من الأذكياء الذين يعرفون أسرار الحوادث وحقيقة الرجال، له مكتبة حافلة تحتوي على الكثير من الكتب النادرة في تاريخ الجزائر والمغرب، وهو الذي قرأ علي رسالة الشيخ عمر راسم المخطوطة في تراجم بعض زعماء النهضة الأولين في الجزائر، فسجلتها ونفعتني نفعا كبيرا، ولا أراها توجد عند غيره.
وجلست في ذلك الأسبوع في قسنطينة إلى الشيخ سعيد بن الحافظ مدير مدرسة التربية والتعليم في قسنطينة، وهو من أساتذتنا الكهول، ومن تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، يحفظ تاريخ قسنطينة القديم، ويعرف الكثير عن رجال النهضة بها، فحدثني في مكتبه في بالمدرسة بما أريد، وحدثني عن أستاذه الشيخ عبد الحميد بن باديس فعرفت من جوانبه الخفية ما أريد.
ثم جلست إلى الأخ عبد الحق بن باديس أخ أستاذنا المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس، فحدثني بما أريد عن نسب الشيخ وأخواله ووالدته، فسجلت كل ذلك، كما أرسل إلي أحسن صورة للمرحوم الشيخ باديس، وهي التي في صدر هذا الكتاب.
وجلست إلى الشيخ عبد الرحمن بن عمر فحدثني عن النهضة، وقرأ علي ما اخترته من كتابه القيم: (تاريخ رجال الإصلاح في جيل)، وهو مخطوط في ثلاثة أجزاء والشيخ عبد الرحمن من علماء الجزائر المجاهدين، شارك في نهضتها في الشمال والجنوب، إنه من العلماء الذين شاركوا وعملوا بجد لإنشاء جمعية العلماء في الجزائر وهو مولع بالتدوين وكتابة المذكرات، ومؤرخ، وخزانته حافلة بمادة غزيرة في تاريخ الجزائر الحديث.
وجلست في اليوم الأول من محرم سنة 1385هـ/1965م مع الشيخ سليمان بن الحاج داود في منزلته بالجزائر العاصمة، فحدثني طويلا في مجلسين طويلين داما نحو ثماني ساعات بكل ما أريد من تاريخ ميزاب القديم، وعن النهضة ورجالها في الشمال والجنوبوالشيخ سليمان مغرم بالتاريخ، وله ذاكرة نادرة لا تنسى وهو من الرواة الكبار، شارك في النهضة منذ طرّ شاربه، وهو من زعمائها، سيما في الجنوب، وله بزعماء النهضة في الشمال صداقة وثيقة، وهو ممن عمل في جد وإخلاص في الجلسات التأسيسية لجمعية العلماء، وقد آثره الشيخ عبد الحميد بن باديس كاتبا لشعبة جمعية العلماء في قسنطينة، وكان صديقه يجله الشيخ عبد الحميد ويعجب بذكائه وفصاحته، ونشاطه، وشجاعته الخارقة، وإخلاصه، وقد شاهد كثيرا وحفظ كثيرا من تاريخ الجزائر الحديث، حفظه الله، وقد سجلت كل حديثه بالآلة.
وجلت في مدن الجنوب فجلست إلى كثير من العلماء المسنين الثقاة الذين يعتنون بالتاريخ، فسجلت منهم كل ما أريد عن نهضة الشمال والجنوب، ثم نقلته حرفيا من الآلة، وجلست في غرداية، وبنورة، وبني يزقن، والعطف، والقرارة إلى جماعة من الأساتذة والعلماء والشيوخ المسنين، وأنصار النهضة الذين حفظوا أخبارها، فحدثوني بكل ما أردت فسجلته، ثم ملأ ما نقلته من حديثهم نحو مائتي صفحة في كراستين كبيرتين.
وقد وجدت الإقبال والمساعفة والتنشيط والخدمة من كل العلماء وشيوخنا المسنين الذين قصدتهم، كما أرسل إلي الإخوان الذين سألتهم كل الوثائق التاريخية التي طلبتها، و كان الله معي، فجمعت من المادة من صدور العلماء الثقاة والوثائق والكتب المخطوطة ما استطعت به أن أقدم على التأليف.
وكان تدوين الأحاديث الطويلة الكثيرة من الآلة المسجلة عمل صعب فأعانني الله فأنجزته على النحو الذي أريد، وقد غَبَرْتُ نحو أربع أشهر وأنا أقضي معظم النهار وجزءا من الليل مع آلة التسجيل أستعيد أحاديثهم وأدونها حرفيا.
وفي مطلع الصيف الماضي عزمت على بدء التأليف، فسافرت إلى حيث أتفرغ لعملي، فآثرت الشام مقاما، فإنه ألطف جوا في الصيف، وأصح مناخا، وهو بلد إسلامي أثير لم أشاهده فيجب أن أراه، وأعرف ما فيه من الآثار الإسلامية الكثيرة، وأطلّع على مكاتبه القديمة، وأملك فيه أصدقاء مخلصين، فكان من توفيق الله الكبير لي أن توجهت إلى الشام، فإنه بلاد صحي جميل، وجدت فيه كل ماأردت من نظافة وهدوء ولطف، وجو رائق في الصيف، وشعبه أمين لطيف، مثقف نشيط، يوحي إليك بالعمل والجد، كما وجدت فيه الأخوة الصحيحة، والإكرام والاحترام من شعبها وإداراتها سيما جماركها.
وأتاح الله لي سكنا في ضاحية المزرعة الجميلة في دمشق مع عائلة كريمة وجدت فيها كل ما أريد من أمانة ولطف، وهدوء، وإحترام، وإعزاز، وكانت أحسن عنوان للشام عندي، فاستطعت في هذا الجو العائلي الجميل وفي جو الشام أن أكتب الجزء الأول كلّه من هذا الكتاب في الصيف بالنشاط الجم الذي أجده في الشتاء، ووجدت ما أريد في المطبعة التعاونية من نشاط وأمانة، ووفاء بالمواعيد، فكان عملي في الطبع مريحا والحمد لله، أرجو أن يكون الله معي فيما يأتي فأتم كل حلقات الكتاب على النحو المرضي إن شاء الله.
لقد بالغنا في تصحيح تجارب المطبعة، ومع ذلك وقعت بعض غلطات مطبعية عقدنا لها جدولا في آخر الكتاب لبيان الصواب، وقد وقع غلط مطبعي في عنوان صفحة 203 تجد صوابه في الجدول، يجب أن ترجع إليه قبل قراءة الفصل المهم الذي يفيدك ويروقك لينسجم العنوان بالفصل في نفسك.
لنهضة الجزائر ثلاثة أدوار، دور نشأتها وفتوّتها وصدر شبابها، وهذا الدور يبتدئ من آخر القرن الثالث عشر الهجري، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر المسيحي إلى قيام الحرب العالمية الأولى، في سنة 1333هـ/1914م ثم تتطور النهضة وتتسع، ويتم لها شبابها، وتنشر المدارس العربية العصرية، وتكثر البعثات العلمية إلى المشرق وأوروبا، وهذا الدور يستمر إلى سنة 1350هـ/1931م، ثم تنشأ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وغيرها من الجمعيات الخيرية الثقافية التي هي ثمرة الدورين الماضيين، فتدخل النهضة في دور النضوج، فتخلق للجزائر أجيالا من الشباب المثقف الصالح المتدين المخلص الذي ظفرت الجزائر منهم بجندها الباسل، وقادتها المخلصين الثابتين، فثارت على الاستعمار فاستقلت.
إن الدور الأول من النهضة وهو الذي يشمل عليه هذا الجزء، هو الحلقة المجهولة، لانعدام الصحافة العربية الجزائرية الوطنية في وقته، وهي التي حفظت لنا الكثير من تاريخ الدورين الثاني والثالث، وسيكون الجزء الثاني من هذا الكتاب في الدور الثاني للنهضة، والجزء الثالث لدورها الثالث وللثورة المباركة التي انبثقت منه.
سأكتب في قسم الثورة عن مجاهدينا المخلصين الذين جاهدوا في سبيل الله، ثم كتموا أعمالهم، ورضوا من الجزاء براحة الضمير لقيامهم بالواجب، وبما يرجون عند الله، وأكتب عن شهدائنا الأبرار الذين مهروا استقلالنا وحريتنا بدمائهم الزكية، وأرواحهم الطاهرة، واستشهدوا في سبيل المثل العليا التي يؤمنون بها.
إن ثورة الجزائر لا يستطيع أن يدونها مؤلف واحد، لأنها ثورة قطر بأكمله، وثورة أمة بأسرها، وقعت معاركها في كل أنحاء الجزائر، وشارك فيها الشعب الجزائري كله، فعلى مثقفي الجزائر وكتابهم في كل ناحية أن يدونوا أخبار الثورة، وأنواع البطولة والجهاد في ناحيتهم، ليتكون لنا السفر الكبير الذي يشتمل على أخبار ثورتنا وتاريخها الكامل، ليت أبنائنا المتعلمين الذين عاشوا في سنين الثورة خارج الجزائر رافهين في مدارسهم وكلياتهم يعرفون واجب الوطن والثورة عليهم، فينهضوا لتدوين أخبارها كل ناحيته، ليعرفوا ما لم يشاهدوه، ويفيدوا الوطن بنتاجهم. إن العمل المثمر والنتاج العلمي والأدبي، سيما التاريخ، هو ما تنتظره الجزائر منهم، وهو ما يبجلهم عندنا، لا الألقاب العلمية الفارغة التي ينتفخ بها ضعفاؤهم انتفاخ الديوك التي لا تبيض.
لقد ثارت الجزائر وتحررت، وقامت بالمعجزات في ثورتها! فما الذي جعل تلك الأمة التي جثم على صدرها الاستعمار الصليبي الجهنمي قرنا وأربعا وعشرين سنة، وهو يأخذ بخانقتها في جبروت وقوة ليقتلها، ويجردها من دينها وعروبتها، تزداد تمسكا بالدين والعروبة، وتنطوي على القوة الجبارة التي صرعت بها المستعمرين وانتصرت عليهم الانتصار الباهر، إن ذلك كان بفضل نهضتها الحديثة التي نجد أسبابها وزعمائها وأبطالها، وتاريخنا في هذا الكتاب يا صديقي.
محمد علي دبوز
دمشق(المزرعة الجديدة)
22رجب الخير1385هـ/15نوفمبر1965م
هذا الكتاب
سألني كثير من أصدقائي المؤلفين والأساتذة في القاهرة والمشرق العربي عن جذور الثورة الجزائرية العظيمة! تلك الثورة التي شرفت الإسلام والمسلمين، ورفعت رؤوسهم وأورثتهم العزة والثقة بالنفس، وجعلتهم يزدادون اعتقادا بأنهم إذا رجعوا إلى الله وعملوا لوجهه الكريم يكن معهم، فيأتوا بالمعجزات كما فعل أجدادهم المسلمون في خير القرون ! وكانوا يسألونني في لهفة: ما الذي أورث للأمة الجزائرية تلك القوة العظمى التي صمدت بها في الحروب المريرة الطويلة، واستبسلت في القراع، فهزمت عدوا قويا أضعافا في العدد أربع مرات، تظاهره أسلحة الحاف الأطلنطي الجبارة وافتكت حقها ببطولتها وتضحيتها، وقرت عينها؟!
فكنت أجيبهم : إن ذلك كان بوراثة الجزائر الزكية القوية من أجدادها الأقوياء العظماء، ومن دينها الإسلامي العظيم ! وبنهضتها العظيمة ! تلك النهضة التي قام بها زعماؤها المصلحون المخلصون، فأصلحوا نفوس الأمة الجزائرية بدين الله القويم فنهضت واتحدث، وثارت، وجاهدت في سبيل الله لاعلاء كلمة الله ! وللعزة والحرية والكرامة فنصرها الله !
أما وراثة الجزائر والمغرب التي كونها فيهم عنصرهم القوي الكريم ودينهم الاسلامي العظيم فذلك ما جلوناه في كتابنا (تاريخ المغرب الكبير) في أجزائه الثلاثة أما نهضة الجزائر العظيمة التي هي الجذر الثاني لثورتها المباركة فذلك ما تجده في هذا الجزء وفي غيره من أجزاء هذا الكتاب إن شاء الله .
نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة:
في ثلاثة أجزاء: 1-2-3 تشتمل على 996 صفحة من الحجم الكبير. هذا الكتاب يريك أسباب النهضة الإسلامية العظيمة الحديثة في الجزائر. وأدوارها ونتائجها الكبرى في كل دور، وقادتها المصلحين وتاريخهم، وأسباب عظمتهم ونتائجهم العظمى للأمة، ويريك أسباب ضعف الأمة الجزائرية فاستولى عليها الاستعمار، والطريق الذي سلكه مصلحوها فأشفوها بدين الله، فنهضت وازدهرت وجاهدت في سبيل الله فاستقلت والحمد لله. وجل الأجزاء الثلاثة أبواب مهمة في تاريخ الجزائر الحديث لا توجد في كتاب.
كتب بأسلوب جميل طليّ، وبتحليل فلسفي عميق، وطبع طبعة جميلة، وهو يشتمل على صور فوتوغرافية تاريخية كثيرة مهمة لزعماء النهضة ومظاهر النهضة الحديثة ومنابعها.
يوجد في المكاتب الكبرى في الجزائر.