نبذة عن الكتاب
تاريخ المغرب الكبير
تأليف
محمد علي دبوز
أستاذ الأدب والتاريخ في معهد الحياة بالجزائر
الجزء الثالث
الطبعة الأولى
1383هـ_1963م
طبع بدار إحياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
الطبعة الثانية
1433 هـ - 2013 م
عالم المعرفة للنشر والتوزيع
قامت وزارة المجاهدين بطبعه بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر
مقدمة الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا وآله أجمعين.
وبعد، فإن مقدمة هذا الكتاب الذي يشمل على أجزاء كثيرة هي ما صدرنا به الجزء الثاني الذي قدمناه إلى مكتبة العربية منذ ستة أشهر. وما هذه الجملة الوجيزة إلا عنوان لهذا الجزء الذي نقدمه إليك, يبين لك في إجمال موضوعه, ويريك طريقتنا فيه.
إن هذا الكتاب في تاريخ المغرب الكبير. وتاريخ المغرب هو أهم ما تحتاج إليه مدارسنا, وجامعاتنا, وشبابنا, ومؤلفونا, وكل قرائنا؛ وأول فن يجب الاعتناء به في مدارسنا, والتحمس له في جامعاتنا, وتقديمه في أساليب عديدة, وفي مظاهر جذابة مغرية إلى أبنائنا في كل مراحل النشوء, وإلى الأمة في مختلف أحوالها. وذلك لفوائده التربوية العظمى, وجدواه الكبيرة على المرء في كل نواحيه, وفي كل أدواره.
لقد حارب الاستعمار اللاتيني الحقود تاريخ المغرب الكبير بكل وسائله. فحرم تدريسه في مدارسنا العربية الحرة, وقيد أقلام مؤلفينا في المغرب فلم يستطيعوا كتابته كما يجب, ليبينوا ماضينا الأغر المجيد, وعظمة أجدادنا وبطولتهم, ومجدهم الأثيل, ويجعلوا أبناء المغرب بالتاريخ الطلي المصفى, العميق, يعيشون مع أجدادهم, فيتأثرون بهم, ويقتفون خطاهم في طرق العظمة والمجد, ويتجهون الاتجاه الرشيد الذي يضمن لهم السعادتين, ومجد الدارين, ويجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
لقد ثار المغرب الكبير على الاستعمار في كل عهوده, وزلزل أقدام المستعمرين بثوراته العارمة, وأورث للإسلام ببطولته وثوراته الحربية والسياسية والثقافية فخرا وعزا, وجعل المستعمرين يحسبون للمسلمين حسابهم, ويقدرون المغرب ويعرفون صولته. فما غرض المغرب فيفي تلك الثورات الكبرى على الاستعمار اللاتيني الصليبي الحقود؟ إن غرضه أن يعيش حرا مستقلا, سيدا في بلاده, ويتمتع كل التمتع بشخصيته الإسلامية العربية العظيمة التي كبل الاستعمار يديه وكل جوارحه, فأجهد بكل وسائله في سلخها عنه, وتجريده منها؛ لأن شخصيتنا الإسلامية العربية المقدسة العظمى هي قلبنا النابض بالحياة, وأجنحتنا الكبرى التي نسموا بها إلى أسمى الغايات, وهي كل الأسباب في تقدمنا ونجاحنا وسعادتنا؛ وبدونها نكون مقصوصي الأجنحة لا نسمو, عديمي القوة لا ندافع, ونكون على وضم لذئاب الاستعمار, تبتلعنا كما تشاء, وتستعمرنا الاستعمار العقلي والاجتماعي الذي هو أفتك بنا وأقتل لنا من الاستعمار السياسي البغيض.
أن المغرب قد ثار على الاستعمار لا لملء بطنه كما يتخيل البسطاء, ويتخيل الجهلة, ولكن ليتمتع بشخصيته الإسلامية العربية العظيمة, وتظهر على حقيقته, وتسطع في كل النواحي مواهبه التي يئدها الاستعمار.؟
إن شخصيتنا الإسلامية المقدسة العظمى تقوم على ثلاث قواعد هي أساسها, وجدعها الذي تتفرع عنه, وهي: اللغة العربية المقدسة, وديننا الإسلامي العظيم, وتاريخنا الإسلامي المجيد. هذه القواعد الثلاث التي تقوم عليها شخصيتنا العظيمة, وقد فجر الاستعمار على هذه القواعد العظيمة الراسخة جبالا من الديناميت ليهدمها في الغرب فيقضي على هذه الشخصية الإسلامية التي هي الأجنحة التي تجعلنا نفلت من يده, والسلاح الفتاك الذي نفجره عليه فنمحقه؟؟؟؟
ها نحن قد افتككنا- والحمد لله- استقلالنا وحريتنا من المستعمر الصليبي الحقود. فيجب أن نبلغ مرامنا, فنتمتع كل التمتع بشخصيتنا الإسلامية العربية, ونبنيها ونجد في بنائها في ناشئتنا, وننعشها ونقويها في أمتنا. إنها والله هي كل السبب في تقدمنا ونجاحنا, وهي التي تجعل الله معنا- وهو أكبر فوق الوجود- فنصل غاياتنا, ونحقق كل آمالنا؟؟؟
إن التاريخ هو الفن الذي يجعل ناشئتنا وكل الطبقات تعيش في أزهى عصورنا الإسلامية, وتعاشر أجدادنا العظماء الصالحين, فتتأثر بهم, وتفيض عليهم روح الأجداد ودينهم, فتزدهر فينا شخصيتنا الإسلامية العربية التي هي أقدس وأعظم ما نملك في الوجود.؟؟؟؟؟
والدين كما ينعش الدين في النفوس, ينعش العربية في الألسنة, لإقبال الأمة عليه إذا قدم إليهاكما هو في هذا الكتابفي أسلوب أدبي جذاب, مصفى من أكداره القديمة, وأوساخ الاستعمار التي سممها بها.
إن التاريخ يتضمن القاعدتين الأخريين لشخصيتنا الإسلامية وهما: اللغة العربية والدين, ويقويهما, ويظاهرهما فتزداد ازدهارا وقوة.فيجبالاعتناء به كل الاعتناء في مدارسنا, وكل معاهدنا, وفي دروس الوعظ والإرشاد, وفي كل وسائلنا التربوية لتهذيب الناشئة والمجتمع, وتزويدها بالطاقة العظمى الذي ينطلقان بها إلى أسمى الغايات؟؟؟
إن الاستعمار اللاتيني قد زال من مغربنا الكبير والحمد لله؛ ولكنه ترك في كثير من خريجي مدارسه و جامعاته من أبنائنا عقدا نفسية خطيرة هي أضر لنا من الاستعمار؟؟ وأوحى إلى كثير منهم بأن الإسلام ليس دين المدنية والعظمة, وأنه سبب الخمول والضعة؟؟ وأن اللغة العربية لا تساير المدنية, ولا تماشي رقي العصر الحديث, ولا تليق للدولة العصرية العظمى؟؟وأن الإسلام إنما يتمسك به الرجعيون؟ واللغة العربية أنما يتحمس لها ويناصرها المتخلفون؟ هذه العقائد الخطيرة التي هي الديناميت الفتاك الذي يهدم مغربنا, والسم القتال الذي يفتك بنا, وهي شر من وجود المستعمرين كلهم في بلادنا. لأن المستعمرين نعتقد عداوتهم, فنكون على حصانة من عدواهم. أما أبنائنا الذين يلابسوننا, ويختلطون بدهمائنا وأغرارنا, ونحسن الظن بهم, وتتفتح لهم صدورنا, فإنهم يسكبون في مغربنا هذه العقائد القتالة, ويغمروننا بعدواهم المميتة, وإن لم يستطيعوا, لتمسك المغرب بشخصيته الإسلامية العظيمة, وتقديسه لدينه ولغة دينه, فإنهم يكونون حجر عثرة لنا في طريقنا, وجماعة شاذة تجاذبنا إلى الغرب ونحن نريد الاتجاه إلى الشرق؟ أي أمة تسرع خطواتها, ويستقيم سيرها, فتصل غاياتها إذا كان فيها من يجذبها إلى عكس اتجاهها, ويدفعها إلى غايتها؟؟؟ إن التاريخ الإسلامي المغربي هو الذي يشفي هؤلاء الأبناء, إذا رأوا عظمة أجدادهم في عصور المغرب الزاهرة, وشاهدوا سعادتهم ونعيمهم, ورخاء عيشهم الذي لم يحظ ببعضه الأوربيون الذين يعانونالأزمات النفسية, والأمراض التي يصاب بها عباد المادة؛ ورأوا حضارتهم الراقية, والذرا الرفيعة التي يحتلونها في كل ميدان, وعبقريتهم وتقدمهم على الدنيا كلها بفضل الدين الإسلامي العظيم, الذي يتمسكون به, ويتخلقون بأخلاقه, ويلتزمون طريقه المستقيم؛ وبفضل اللغة العربية التي هي مفتاح الدين, وأم العلوم كلها, وسيدة اللغات جميعها, في غزارة الثروة, وفي سعة الأفق, وفي المرونة, وفي الحلاوة وجمال الجرس, ورشاقة اللهجة وفي مسايرة العصر ونهضة الزمان. إنهم بما يشاهدون من عظمة أجدادهم في التاريخ يحسن إيمانهم, ويزدادون حماسة للغة العربيةالمقدسة. فيكونون أبناء الأمة البررة, لا يعقون الأجداد, ولا يصيبوننا بما عجز الاستعمار أن يصيبنا من الدواهي؟؟
إن التاريخ هو البلسم الذي يشفي أولئك الأبناء والنور الوهاج الذييريهم حقيقة الدين الإسلامي العظيم فيتحمسون له, وعظمة شخصيتنا الإسلامية العربية فيتمسكون بها, فيكونون نفعا خالصا لنا, وسبب تقدم ورقي لمغربنا, وعاملا لرضى الله, فنصل كل مراد, ونحظى بكل نجاح؟؟
إنه ليس بالوعظ ولا بالجدال نقنع هؤلاء الأبناء كما أنه ليس بالوعظ النظري وحده نأثر في ناشئتناوكل طبقاتنا, ولكن بالتاريخ الذي يعيشون به في بيئة أجدادهم الزكية, فتورثهم بياضها, وإشراقها, فيكونون كما يريد مغربنا الحصيف الناهض, وكما يرضى الله. ولكن التاريخ لا يجعل أبنائنا وكل طبقاتنا يعيشون مع أجدادهم, ويعرفون عظمتهم, فيعتدون بهم, إلا إذا كان جذابا, يسحرهم بأسلوبه الأدبي, وبروحه الفلسفية, وببحثه العلمي النزيه, وهذا ما التزمناه في هذا الكتاب وتوفر في( تاريخ المغرب الكبير) هذا السفر الذي نعجل به إلى أبنائنا, ومدارسنا وجامعاتنا, ومؤلفينا, وكل الأقطار العربية الإسلامية لنحبب إليهم قراءة التاريخ, ونقدم إليهم تاريخ المغرب المصفى الذي طهرناه من دعاية السياسة القديمة, وترهات الاستعمار, ليكون التاريخ نفعا خالصا للأمة, وسبب وحدة ومحبة تجعل أمتنا الكبرى كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
إنه مما يمتاز به هذا الكتاب مع الأسلوب الأدبي الجذاب, والتحليل العميق, والبحث العلمي النزيه, الخريطة التي تبين لك حدود الدولة المغربيةفي القرن الثاني والثالث الهجري. وهو ما لاتجده في كتاب آخر عربي أو أفرنجي.
لقد صغت لك هذا الكتاب -عزيزي القارئ - من دمى ودماغي, وعانيت من الجهد والمشقة في البحث والتأليف ما لا يعلمه إلا من عانى مشقة البحث النزيه, والتأليف المتقن, في موضوع غير معبد ولا ميسور المادة كتاريخ المغرب في القرون الإسلامية الثلاثة الأولى. وكتبت معظم هذا الكتاب في الصيف. وكنت أخشى أن يكر علي التعب المضنى لما بدلت من الجهد في الجزء الثاني, ويقطعني حر القاهرة المتقد ولكن والحمد لله وجدت من النشاط وخصب القريحة في صيف القاهرة أكثر مما أجد في الشتاء. فأيقنت أن الله معي؟؟ وأن القاهرة النشيط الحية الفتية التي تفيض من نشاطها وحيويتها على النيل فيزداد في الصيف الذي تجف فيه الأنهار, ويفيض ويصل ذروة القوة والتمام, ويكون كما تريد مصر الحبيبة, لتفيض مثل ذلك على من يعمل في عزيمة وإخلاص فيها,
فيكون في صيفه أقوى منه في شتائه؟؟؟
إن هذا الكتاب لا يقدم إليك التاريخ الجاف الذي يقتصر على سرد الحوادث الغامضة المبهمة كما يفعل المؤرخون الذين لا يعرفون عظمة التاريخ والمقاصد السامية التربوية الاجتماعية التي يحققها؛
بل يقدم لك الحوادث مقرونة بعللها, ويحلل لك الشخصيات, ويريك أسباب عظمتها و فشلها, وأسباب عظمة الدول وفشلها ويستخلص لك العبرة التي تنير لك الطريق وتهديك في سبل الحياة, ويلذك ويؤنسك بالأسلوب الأدبي الذي يحبب إليك دراسة التاريخ, ويقدم إليك التاريخ المصفى من أكاذيب الملوك وترهات الاستعمار, فترى وجه أجدادك الجميل الأغر كما خلقه الله.
وبعد؛ فقد قدمت إليك التاريخ – عزيزي القارئ – في الجزء الثاني من هذا الكتاب الفتح الإسلامي للمغرب المصفى من أكدار الاستعمار الحديث, وثورة المغرب على الأمويين لظلمهم له, وعدم تمسكهم بدين الله, وبالعدل الإسلامي في معاملته, ولتمسك المغرب بالإمامة الإسلامية, وحنينه وإيثاره لعهد الخلفاء الراشدين, يريد تجديده في المغرب بعد أن قضى عليه الأمويون, وجعلتك في ذلك الجزء بالأسلوب الأدبي, والبحث الفلسفي, والأمانة العلمية, تدرك أكاذيب المستبدين المتغطرسين على مغربنا الثائر على ظلمهم, وترى جهاد المغرب ونضاله وتضحياته لإحياء الإمامة الإسلامية, وإنشاء دوله العادلة التي تتمسك في سياسته بالدين, وتلتزم فيه هدي الخلفاء الراشدين. وقد تركت المغرب في آخر الجزء الثاني في نضاله وجهاده, وهو مغبر الجو, وصليل السيوف, ونار المعارك في سبيل تحقيق المثل الأعلى تتأجج في كل أنحائه. فهل قر قراره, وتحققت آماله, وأسفر محياه, وسمعنا رنين ضحكه ومرحه في أفراحه, أم ضل وهو لا يسمع منه ألا رنين سلاسل الظالمين المستبدين التي يهوي عليها بمعاوله ليكسرها, وحمحمة الخيول في المعارك المتأججة التي لا تخبوا نارها؟
أن الأمة التي تدخل في ليلها بغبار الهيجاء, ومعارك التحرير, هي التي تدخل في نهارها, ويطلع صبحها المنير, وتشرق شمسها الوهاجة؟ لقد المغرب مثله الأعلى, وأنبث بدمائه وبطولته أمانيه, فأحيا الإمامة الإسلامية في ربوعه, وأنشأ دوله العادلة التي تقيدت في سياسته بالدين, فجددت فيه عهد الخلفاء الراشدين, فقرت عين المغرب بهذه العهود الزاهرة البيضاء, فصار هو الضاحك الجذلان السعيد الهانئ في العالم الإسلامي في عهود تلك الدولة العادلة. سترى المغرب – يا عزيزي – في هذا الجزء في عهد الدولة الرستمية يحظى بعهد الخلفاء الراشدين, ويتمتع من أئمته بما كان يتمتع به المسلمون في عهد الفاروق وخلفاء الرسول عليه السلام, ومع هذا العدل والديمقراطية الكاملة, والتمسك بالدين كل التمسك وجعله دستورا للدولة الرستمية لا تحيد عن طريقه في شاردة ولا واردة, الحضارة العظمى, والمدنية الراقية, وامتياز المغرب في ظل الإمامة الإسلامية بكل ما امتاز به العباسيون من حضارة ومدنية وعمران.
سيريك المغرب المتحضر القوي السعيد في ظل الدولة الرستمية أن عهد الخلفاء الراشدين وسياستهم وعدلهم وتمسكهم كل التمسك بالدين هو الذي يليق بالأمم المتحضرة, والشعوب الحية, ويساير الزمان, ويليق في كل عصر, وليس كما قال الجهلة الملحدون الذين يمشون في ركاب المستبدين, ويتأثرون بكتبهم, ويرددون ترهات المستشرقين المغرضين؛ يريك المغرب كذب ما قاله الجهلة الملحدون من أن سلوك خلفاء الراشدين, وعدلهم, وتمسكهم في السياسة بالدين, وبما أمر الله, شيء لا يمكن إلافي زمانهم, ولا يليق إلا في عصرهم, وأنه لم يتجدد ولن يكن في أمة وفي دولة بعد دولتهم وأيامهم؟
إن المغرب قد جدد عهد خلفاء الراشدين في ربوعه, لتمسكه بالإمامة الإسلامية, وإنشائه لدوله العادلة التي جعلت الدين دستورها, وهدي خلفاء الراشدين هديها؛ وتحقق فيه ما سكب الدم الغزيرمن أجله, وما قضى عليه الأمويون والعباسيون في المشرق.
إن الدولة الرستمية التي تقوم على الإمامة الإسلامية هي أول دولة جزائرية إسلامية نشأت في المغرب الأوسط فبسطت جناحها الحنون وأشعتها الجميلة إلى المغرب الأدنى فوحدت أغلب المغرب, ودخل بها في أعراسه وأعياده وعهود قوته؟ إنها دولة خلعت ظلم العباسيين واستبدادهم, وتمسكت بالإمامة الإسلامية, وأذاقت المغرب حلاوة عدلها, ونعمة تمسك الدولة في السياسة بالدين , فاتجهت أليها الأنظار, فثارت ثائرة المستبدين فرفعوا المعاول عليها, وبسطوا ألسنة السوء والبهتان فيها, فشوهوا صفحاتها الغراء في التاريخ, وظلوا عشرة قرون كاملة, وكتب التاريخ, وألسنة العباسيين, والعبيديين, وكل من يتمسك بالملكية المطلقة المستبدة, ويكره الإمامة الإسلامية العادلة, تكيل لها ما يسود صفحتها, ويثنى بأعنة المغرب والمشرق عنها, لكي لا يروا في صفحاتها الغراء جمال الإمامة الإسلامية فيعاودهم الحنين إليها, فيقضون على عروشهم واستبدادهم, ويحيون اٌمامة الإسلامية التي أسعدت أجدادهم.
لقد كان جوانب المغرب الكبير مغبرا بالملكية المطلقة, بالاستعمار الذي يؤكد مزاعمها في دولنا المغربية الزاهرة, فها هو قد تخلص من الملكية المطلقة, وأوتي رؤوسا مثقفين, دستوريين, مخلصين لبلادهم, غيوريين على تاريخهم , فتكون في مغربنا الكبير الجو الضاحي الصافي لإبراز تاريخنا مصفى من أكداره, ليكون سبب بناء ومحبة, فيكون أبناء المغربفي حاضرهم كما كانوا في ماضيهم, مع بعضهم بعضا, ومع الأمة الإسلامية كلها, أخوة متعانقين متحابين, متساندين, يرضى عنهم الله, وتهابهم كل الدنيا وتحبهم؟
لقد عزمت في هذا الجزء كما قررت في مقدمة الجزء الثاني, أن يكون لدول المغرب كلها في القرن الثاني والثالث الهجري: الدولة الرستمية, ودولة بني واسول, والدولة الإدريسية, والدولة الأغلبية, ولكن تاريخ المغرب خصب غني, والتحليل الفلسفي, والتصوير الواضح, والبيان الجلي الذي التزمته في هذا الكتاب جعل الدولةالرستمية ومقدماتها من ثورة المغرب على العباسيين لتمسكه بالإمامة الإسلامية و العمل لإنشاء دوله العادلة, جعل ذلك وحده هذا الجزء يمتلئ, ويزيد على الحجم الذي قررته له. لقد عزمت أن لا يتجاوز ثلاثمائة صفحة, ولكن غزارة المادة في تاريخ المغرب, والقاهرة الفتية النشيطة الحبيبة التي تملأني بالحياة والنشاط, جعل هذا الجزء يمتد ويربو حتى تجاوز ستمائة صفحة؟
سوف لا يدركك الملل في هذا الكتاب يا صديقي, فالأسلوب الأدبي, والتحليل الفلسفي, والبحث العلمي النزيه, هذه الخصائص الحسنة لهذا الكتاب, ستجعلك تستقصر فيه الزمان الطويل, وتختمه منتشيا به إذا بدأته؟ سأنقلك إلى أجدادك, وأجعلك فيه على أنس وفرحة وسعادة الحي الذي عاد إليه ميت حبيب فجالسه وأنس به, ورآه على هيأته المشرقة, ووجهه الجميل؟
هيا إلي –يا عزيزي القارئ – لترى المغرب الأبي يثور على الظلم والاستبداد في أول الكتاب, ثم يسكن, غضبه, لتحقق مناه, وبلوغه مرامه, وتشرق دوله الإسلامية العظيمة؛ تلك الدول العادلة التي تتمسك بالإمامة الإسلامية, وتجعل الدين الإسلامي العضيم دستورها, فيسعد بها المغرب, ويحظى بالسعادتين, ويتجدد بها في ربوعه عهد الخلفاء الراشدين.
لقد عجلنا بالجزء الثاني والجزء الثالث من هذا الكتاب قبل الأول, لشدة حاجة المغرب والمشرق في إلى حلقات الفتح الإسلامي للمغرب, وتاريخ المغرب في القرن الثاني والثالث الهجري. إنهتاريخ مظلوم, عديم المصادر, معكر الموارد, خبط فيه أغلب المؤرخين المغاربة والمشارقة خبط عشواء, لاعتمادهم على المصادر الملكية المطلقة, المتعصبة, واغترارهمبالكتب الإفرنجية الاستعمارية المغرضة التي ألفت لتسميم التاريخ المغرب, وإحداث التفرقة بين أبنائه, وتشويه صفحات المغرب الغراء في ماضيه المشرق الماجد, فاضطررنا إلى التعجيل به, ليجد أبناؤنا, و جامعا تنا, ومدارسنا و مؤلفونا وإخواننا في المشرق المورد الصافي العذب لتاريخ المغرب الكبير.
إن الفتح الإسلامي بداية لحياة جديدة للمغرب, وتاريخ جديد له. ولا يفوت القارئ شيء إذا ابتدأ دراسة هذا الكتاب من الجزء الثاني. إنه يبتدئ من أولالتاريخ الإسلامي للمغرب. وقد تعرضنا في الجزء الثاني لكل ما ينبني عليه الفتح الإسلامي وتاريخ المغرب بعده من تاريخ المغرب القديم. فالجزء الثاني مستقل كل الاستقلال لا يرتبط بما قبله. وما سميناه ثانيا إلا لعزمنا على طبع ما كتبنا في تاريخ المغرب قبل الإسلام. وقد أخرنا الجزء الأول لأن الحلقات التي ابتدأنا بها لا تنبني كل الانبناء عليه, سيما وقد أوردنا منه ما يجب معرفته في الجزئين الثاني والثالث.
إليك يا صديقي هذا الجزء الثالث. وسأعجل لك إن شاء الله بعد الأول بجزء آخر بل بأجزاء تتمناها في موضوع عظيم توجد مادته في رءوس مشائخنا الذين يتناقصون ونفقدهم على الأيام . وهذا الموضوع هو( نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة)؟
هذا الموضوع الذي سأشمر لجمع مادته, ثم أكتبه لك – عزيزي القارئ – فترى مغربنا والجزائر المجاهدة تثور على الظلم والاستبداد والصليبية, وتواصل جهادها قرنا وثلاثين عاما إلى ان تحقق آمالها, فتحررت, واستقلت والحمد لله؟
لقد فارت الوراثة الزكية في عروق الجزائر الأبية فسلكت في عهدها الحديث طريق أجدادها الذين ثاروا على الظلم في العهد القديم, فأنشأوا الدولة الرستمية العادلة التي دخل بها المغرب الأوسط وأغلب المغرب الأدنى أعراسه وعهوده قوته وسعادته؟
والله أسأل أن يحفظ مغربنا الكبير وأمتنا العربية والإسلامية كلها, ويحقق الآمال الكبرى, ويكون معنا في كل حين, لتمسكنا بدينه القويم, وبالاستقامة, وأسباب القوة والنجاح, فنبلغ آمالنا في كل ميدان أن شاء الله؟ والحمد لله على تأييده وعونه في البدء والختام, والصلاة والسلام على سيد الأنام .
القاهــــــــــرة – التوفيقية: يوم الأحد 24 جمادى الثانية سنة 1383 هـ
10 نوفمبر سنة 1963م
محمد علي دبوز
واجهة وخلفية الكتاب
في ثلاثة أجزاء كبيرة تشمل على 1683 صفحة من الحجم الكبير. وهو يشتمل على تاريخ المغرب كله بأقطاره الأربعة : ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب.
الجزء الأول من العصر الحجري إلى الفتح الإسلامي.
الجزء الثاني في الفتح الإسلامي والعهد الأموي في المغرب.
الجزء الثالث في العهد العباسي والدول الإسلامية المغربية المستقلة.
ألف هذا الكتاب ببحث علمي نزيه، صفّى تاريخ المغرب المظلوم من أكاذيب السياسية القديمة، وخزعبلات المستشرقين والمستعمرين، وبتحليل فلسفي عميق، يريك الحوادث وأسبابها، والشخصيات والدول وعوامل عظمتها وانحطاطها، وبأسلوب جميل طليّ يحبب التاريخ إليك. وفيه أبواب مهمة كثيرة لا تجدها في كتاب. طبع في القاهرة طبعة أنيقة تروقك. يوجد في المكاتب الكبرى في دمشق وبيروت والقاهرة والجزائر.