الرئيسية

الشيخ محمد علي دبوز

مكتبة الصفاء

جمعية الصفاء

مواعيد علمية

ملاحظات واقتراحات

تاريخ المغرب الكبير

 نبذة عن الكتاب

تاريخ المغرب الكبير 

تأليف

محمد علي دبوز

أستاذ الأدب والتاريخ في معهد الحياة بالجزائر 

الجزء الثاني 

الطبعة الأولى

1383هـ_1963م

طبع بدار إحياء الكتب العربية

عيسى البابي الحلبي وشركاه

 
الطبعة الثانية

1433 هـ - 2013 م

عالم المعرفة للنشر والتوزيع

قامت وزارة المجاهدين بطبعه بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر


مقدمة الكتاب


الحمد لله على نعمة الاستقلال بعد الاستعباد، والصلاة والسلام على خير العباد، وعلى آله وأصحابه الذين كوّنوا في تاريخنا أغرَّ صفحاته، وتركوا لنا ماضيا مجيدا مشرقا نحيا ونسود بمعرفته، ونتقدم ونسموا بالتأثر به، ونحقق كل الآمال الكبرى باتخاذ مثلنا العليا من أبطاله، والاتصاف بما توجهم الله به من الصلاح والصفاء، ومن الطهر والنقاء.

       وبعد فهذا تاريخ المغرب الكبير نقدمه إلى الأقطار العربية والإسلامية، وإلى المغرب الكبير، وهو أول كتاب جزائري يطبع بعد استقلال الجزائر، وارتفاع علم العروبة فيها. وعسى إخواننا في الشرق العربي يرون فيه محيَّا الجزائر العربية، وتاريخ المغرب صافيا نقيا من دعايات السياسية القديمة، ومن أكاذيب المستعمرين الذين لم يألوا جهدا في استغلال تلك الدعاية التي بثها الملوك المستبدون قديما ضد المغرب ليشوهوا صفحته، وينفروا الناس عنه لكي لا يسلكوا طريق المغرب الذي ثار على الملوك المستبدين، فانشأ دوله الإسلامية العادلة التي سارت فيه سيرة الخلفاء الراشدين، فنعم وساد بالإمامة العادلة، والجمهورية الإسلامية الصحيحة؛ وترى أولئك المستعمرين يستغلون كل الاستغلال تلك الأكاذيب الملكية ليسوِّدوا صفحة مغربنا المشرقة، فيبعدوا ناشئتنا عن تاريخ أجدادهم، فيسهل صبغهم بما يريدون، وتجريدهم من شخصيتهم الإسلامية والعربية كما يشاءون!

وكان أولئك المستعمرين اللاتينيون إذا قرروا شيئا من تاريخ المغرب في مدارسهم الاستعمارية، سيما الابتدائية، حيث التلاميذ الصغار الذين يسهل الإيحاء إليهم، والتأثير فيهم، لا ينتقون من فصول تاريخ المغرب إلا ما يعج بأكاذيب الملوك ودعايتهم المغرضة، فيبنون على ذلك ما يشاءون من أكاذيبهم التي تبدى وجه أجدادنا الجميل على غير حقيقته، وتبرز المغرب في غير حلله الزاهية، وفي غير ألوانه البهية! وكان على جمال الطواويس وحسنها فيبدونه لأبنائنا في حلك الغربان ونكرها، وكان مزنا في السماء، يطفح بالحياة والنقاء، فيصورونه لهم كثيبا جافا في البيداء، أو دخانا فارغا في الهواء! وتراهم يستغلون كل الاستغلال الصراع الذي وقع بين المغرب وبين الملوك المستبدين من الأمويين والعباسيين، فيبثون كل ما يشاءون من عصبية في النفوس، وأحقاد في القلوب، ليبعدوا المغرب عن المشرق، ويفصلوا الأخ عن أخيه، ويقطعوا قطرنا المغربي الحبيب عن ديار العروبة فلا يعد نفسه أصيلاأرومةقحطان، ويصرفوا وجهه عن مشرق الشمس حيث تطلع بأنوارها فتبث اليقظة في النفوس، وتمسح الكرى عن العيون، فتتفتح فتشعر بالذئاب التي ترتع فيها، وأنياب الأفاعي التي تطوقها!

وترى أولئك المستعمرين يستغلون الصراع بين المغرب والملوك المستبدين فيجعلون الناشئ يعتقد أن المغرب في كنف الدول الإسلامية كانت أيامه مصبوغة بالدماء، ودهره مملوءا بالدموع، وأن الذلة والفقر والخوف هو ما كان يخيم عليه، وأن أجدادنا كانوا أشقياء في دولهم لا يتمتعون بما يتمتع به المغرب في جحيم الاستعمار اللاتيني، ليهيئوا نفوسهم للرضوخ للقيود، واستحلاء المرارة فلا يثورون عليها، والرضا بواقعهم الأليم فلا يسخطون عليه! و تراهم يستخدمون تاريخ المغرب المجيد الذي يحرفونه في الإزراء بأجدادنا، وتشويه سمعة دولنا الإسلامية القديمة، ليخلقوا في نفوس أبنائنا عقائد سيئة في أجدادهم، وعقدا نفسية تصرفهم عن الاعتناء بتاريخهم، فلا يرون ما كان يرفل فيه المغرب في عهود دوله الإسلامية الزاهرة من سعادة وهناء، ومن رقي وتقدم، ومن عز وسيادة، ومن ازدهار في كل النواحي، وتفوق في كل الجهات!

وكان الاستعمار اللاتيني في المغرب الكبير قد اتخذ كل وسيلة للقضاء على اللغة العربية التي هي مفتاح الدين والتاريخ، ليبلغ ما يتلهف عليه من تجريد المغرب من دينه وعروبته، فحارب التاريخ الإسلامي فحرم تدريسه في المدارس العربية الحرة.

وكان التاريخ الإسلامي وتاريخ المغرب على الخصوص أول مادة يسأل عن وجودها في حملاته التفتيشية على هذه المدارس التي يراها خطرا عليه.

وكان معهد الحياة الثانوي في القرارة بجنوب الجزائر من تلك المدارس الحرة التي أنشئت منذ ثمان وثلاثين سنة لنشر اللغة العربية، والتربية الإسلامية الصحيحة.

وكنت أتولى تدريس تاريخ المغرب الكبير فيه. وكان غلاة المستعمرين الذين يقصدون التجسس على مدارسنا ومناهجنا يطرقون أبوبه متظاهرين بالزيارةالبريئة، والاطلاع على سير التعليم العربي في الجزائر، وإذا دخلوا الفصل الذي ألقى فيه محاضرات التاريخ ورأوا خرائط دول المغرب الإسلامية ترصع جدرانه في ألوانه الزاهية، وفي جلالها وجمالها، ارتاعوا وتساءلوا: هل تدرسون التاريخ؟!  وكان أول سؤال يواجهنا به هؤلاء المستعمرون الذين يطرقون المعهد قبل الثورة: هل تدرسون التاريخ الإسلامي فإذا قلت: نعم اسودت وجوههم، وبدت علامات التشاؤم والارتياع عليهم!

إن أنس فلا أنسى ذلك المستعمر الغشوم الذي غشي المعهد مع (عمدة) القرارة ممثل الحكومة الاستعمارية. وكان ذلك في شهر مايو من سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وألف ميلادية، وقبل ثورتنا الجزائرية بستة شهور. وكان اكتشاف النفط في جنوب الجزائر قد جعل تلك المنطقة متجه أنظار المستعمرين الفرنسيين ومحل اهتمامهم والناحية التي يفتشونها، ويريدون، أن تكون خالية من كل حركة وطنية، ومن كل منبع لليقظة والنهضة من المدارس العربية الحرة التي يرونها أكثر خطرا عليهم وعلى النفط من النيران! وكانوا يخشون المدارس الثانويةالعربية الحرة أكثر لأنها هي التي تخلق الطبقة المتصفة بدينها، العالمة بتاريخها ولغتها، وقد رأوا خريجيها ينازلونهم في الميدان، ويحبطون دسائسهم، ويبطلون سعيهم للقضاء على العربية والدين في المغرب!

وكان من الفنون التي أتولى تدريسها في معهد الحياة في سنته النهائية الأدب العربي. وكنت في ذلك اليوم مع تلاميذ هذه السنة ندرس قصيدة الرافعي في رسائل الأحزان "حيلة مرآتها" ونقارن بينها وبين قصيدة للبحتري. وكنت منتشيا  بالجمال الشعري، وأعيش  في جو الرافعي الخلاب. وكنت أحب الرافعي وأغرم بأدبه وأراه سيد الأدباء في العصر الحديث! وكان التلاميذ منتشين، فطرق علينا طارق، فإذا أحد أساتذة المعهد يدعوني لمقابلة زائر فرنسي قدم نفسه على أنه أكبر صديق للوالي العام في الجزائر في تلك الأيام "ليونار" وكان المدير غائبا في شأن من شئون التعليم، فلم ير ذلك الأستاذ بدا من استدعائي، وقطعي عن حصتي، فخرجت إليه متذمرا، و بودي أن  لا أخرج، فإنه مع انقطاعي عن جو الأدب الساحر معاينة طلعة استعمارية لابد وأن تكون من تلك الوجوه التي نرى فيها عيون الذئب المسعور، والعدو الكاشح، والمتغطرس الغشوم، فابتدأ الزائر الاستعماري يلقى على أسئلته فعزمت أن أكون صريحا معه فأخبره بكل شيء، وأطلعه على حقيقة المعهد، وكنا قبل مع أمثاله إذا ألحو في السؤال نخبرهم بالكليات ونصرفهم عن التفاصيل، ونأبى أن يطلعوا على مناهجنا وكل فنوننا، فيخرجون وهم يعتقدون أن المعهد مدرسة بسيطة من تلك المدارس التي تشتغل بحشو الرؤوس بالمعلومات بدون أن تعتني بالتربية العقلية والخلقية، فتثقل تلك الرؤوس، فيهيئها ذلك أن تطأطئ للمستعمرين! فأخبرت الزائر المستعمر أن معهدنا ثانوي، للتربية والتعليم، ولنشر اللغة العربية والدين، وأنه يتقبل تلاميذ المدارس العربية الابتدائية الحرة، وأن خريجي المعهد الذين يتخصصون في العلم نبعثهم إلى الجامعة الزيتونية في تونس الخضراء، أو إلي دار العلوم وكلية الآداب في القاهرة. وأخبرته بأن لنا تلاميذ في الشرق العربي، وأنهم محل إعجاب وتقدير كلياته، لما وجدوا فيهم من عقول واعية، ومتانة في الأخلاق، وغرام بالعلم، واستقامة في السلوك! فصفر وجه المستعمر ثم أربدوا تلجلجت الكلمات في لسانه، وبدأ اضطرابه في المنظار المكبر الذي يحمله في يده. وابتدأ يسألني عن فنون المعهد فكان أول شيء سألني عنه: هل تدرسون تاريخ المغرب ودوان الإسلامية؟ فقلت له: إننا ندرس تاريخ الإسلام العام، ونعتني عناية تامة بتاريخ المغرب ودولنا الإسلامية، وأن تلاميذنا يجدون كل النشوة فيهوهم مغرمون كل الغرام به، ولهم عناية تامة به!

وكان مع الزائر المستعمر غادة يتجلى فيها جمال باريس الفتانالذي يراه الفرنسيون أكبر كنوزهم وأعظم مفاخرهم. وكانت تترقرق جمالا وتتمايل رشاقة. وكان إهابها الوردي يشف عن دمائها كأن جسمها من البلور الصافي. وكان هواء الجنوب المنعش وسحر الربيع، وجمال القرارة، وجدة الأشياء في المعهد قد أذكت سرورها، فتألق الابتسام في وجهها، فازداد محياها إشراقا كأن مصابيح قوية قد أسرجت في داخلها! فلما أخبرت صاحبها بحقيقة المعهد وأهدافه ابتدأ الابتسام والإشراق يغيض في وجهها، وكسته صفرة كصفرة الأصيل التي تكسو رؤوس الجبال مؤذنة بموت النهار! ولما قلت لهما إننا نعتني بتاريخ المغرب، وأن تلاميذنا مغرمون به، أربد وجهها وأسود، وصار أزرق داكنا كرأس الأفعى إذا شدخت رأسها بالحجر لتقتلها! فحدقت فيهما فإذا صاحبها زائغ البصر واجم، وهي قد تصلبت فذهب تمايلها وغاضت نضارتها، وكستها دهمة التشاؤم والارتياع، فبدت لي عصا مجرودة قد التهمت منها النيران ثم زهدت فيها، فاسودت وذهبت نضارتها! فخرج المستعمر الغشوم وهو يتعثر في خطاه من شدة الفزع والتشاؤم لما وجد تلاميذنا يعيشون مع أجدادهم وفي دولهم الإسلامية الزاهرة، فيقبسون من أجدادهم القوة التي ترفع رؤوسهم، وتدفعهم لتحقيق المثل العليا، وتذكى غرامهم وحرصهم وإصرارهم على أن يحيوا حياة عزيزة حرة سعيدة،لا يكدرها المستعمر بسمومه وأوساخه، وعلى أن يعيشوا دائما تحت راية العربية والدين، ويكونوا جزءا أصيلا من الأسرة العربية والإسلامية ويكون مغربنا في عهدهم كما كان في عهد أجدادنا، منبعا للدين، وحصنا له، ومعدنا للعربية ومشرقا لها، ومصدر الأخوة الإسلامية والعربية التي توحد العالم الإسلامي والعربي وتجعله صفا واحدا متراصا لا تصدعه المنافسات والشحناء، ولا تفرقه المذاهب الهدامة التي يكيد بها الأعداء لديننا الحنيف، ولا يضيق نطاقه القوميات الضيقة التي يوحي بها الاستعمار إلى الضعفاء من أبناء أمتنا ليبثوا التفرقة بين المسلمين،ويجزئوا أمتنا الإسلامية ويقطعوها فيسهل ابتلاعها، ويصرفونا عن أمتن رابط، وأقدس وشيجة تصل بيننا، وأعظم سبب يوحدنا ويجعلنا جسما واحدا متشابه الأعضاء، متراص الصفوف، وهو سبب الدين، ورابطة الإسلام، وهذا الرحم المقدس الذي يربطنا جميعا بمحمد عليه السلام.

إن الاستعمار اللاتيني قد حرم المغرب من معرفة تاريخ أجداده في مدارسه، وحاربه وضيق عليه في المدارس الحرة، واتخذ كل وسيلة ليكون المغرب دائما على جهل بتاريخ أجداده العظماء، وبتاريخ دوله الإسلامية الزاهرة التي أيقظت أوروبا وانقذتها من الهمجية والضلالة. فلماذا حارب الاستعمار تاريخنا تلك الحرب الشعواء؟

ما هي فائدة التاريخ لنا، وجدواها العظيمة علينا، وما هي الأضرار التي تحصل له من معرفة تاريخنا، ولماذا يعتقد أنه أكبر مصيبة تصيبه، وأعظم ويل، وأشد الدواهي عليه أن نعرف تاريخ أجدادنا، ونعلم أنباء دولنا الإسلامية الزاهرة التي كان المغرب بها متجه الأنظار من أنحاء الدنيا، وكعبة القصاد من أنحاء العالم الإسلامي والمسيحي؟

فوائد التاريخ التربوية وأثره في نهضة الأمم:

إن الله قد خلق في الإنسان غرائز وميولا فطرية هي أساس أخلاقه، وسبب تغيره وترقيه، وعامل تطوره وتقدمه، وبلوغه أرفع الدرجات. وهي التي كانت بها البيئة الاجتماعية التي يختلط بها الانسان، والناس الذين يعاشرهم، والشخصيات التي يعجب بها سبب اصطباغه بصبغة خاصة، واتجاهه إلى هدف معين.

إن هذه الغرائز والميول الفطرية هي غريزة حب الظهور وهي التي تجعلنا نحرص على الاحترام والتفوق، والغريزة الاجتماعية، وغريزة الخوف، وهي التي تجعلنا نخشى الفشل والرسوب، وفطرة التقليد، والإيحاء، والمشاركة الوجدانية. إن هذه وغيرها من الغرائز والميول الفطرية العامة هي أساس أخلاقنا، وسبب ما فينا من عقائد تشكل سلوكنا، وترسم طريقنا في الحياة.

إن هذه الغرائز والميول هي سبب تربيته، وهي التي تجعل المربين يستطيعون التأثير فيه، وصبغه بما يريدون، وتشكيله كما يشاءون.

وإذا كانت البيئة الاجتماعية التي يعاشرها الإنسان ويختلط بها، ويتنبه إليها، ويعجب بها هي التي تطبعه بطابعها، وتصبغه بصبغتها، فيكون نسخة ممن يعاشره، ينظر بنظرته إلى الأمور، ويتصرف مثل تصرفه في الشئون، فإن التاريخ هو الذي يحفنا بيئة اجتماعية راقية من أجدادنا فنعاشرهم، فنتأثر بأخلاقهم، ونتطبع بطابعهم، ونحس بوجدانهم في خطبهم ورسائلهم و وصاياهم وأحاديثهم وأحداثهم فيكون وجدانا لنا، يذكي فينا الحماس لمثلهم العليا فنعمل لتحقيقها، والرغبة في طريقتهم المثلى، وفي نهجهم القويم فنتمسك به، ونندفع فيه، فنصل الدرجة الراقية التي كان عليها الأجداد، ونكون مثلهم في العزة والإباء، وفي الطموح والمحاولة، وفي العمل والكد، وفي الإخلاص والإتقان، وفي العمل لله! وتلك هي أسباب النجاح والتفوق، وعوامل القوة والتقدم، لا يتصف بها إنسان إلا تغير حاله، وتبوأ أرفع الدرجات في كل النواحي، وكان الله معه فيحقق له كل الآمال، فيكون هو السيد الذي يسود غيره، والذروة التي تشمخ على سواها، فلا يستطيع عدو كاشح أن يخضعه، ولا لص مخاتل أن يحتل داره، ولا مستعمر غشوم أن يتسلط عليه!

إن التاريخ أكبر عامل في التربية الخلقية، وأقوى سبب يخلق الأخلاق العظيمة في النفوس. و الأخلاق العظيمة هي أساس رقي الإنسان في عقله وفي جسمه، فهي التي تستتبع كل المزايا، وتقتضي تفوقنا في كل النواحي! فهي الغاية التي يجب أن نستهدفها في التربية، ونقصدها في مدارسنا و في بيوتنا وفي مجتمعنا، ونعتني بها في كل درس، وفي كل عمل. ومتى غرسنا في الطفل الأخلاق الحسنة، فكان على الحزم والنشاط، وعلى الطموح والنظام، وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الحب والاتقان لأعماله، وعلى الإخلاص والصفاء، وعلى التضحية والعمل لله، فقد غرسنا فيه من الأخلاق ما يعمل عقله فيترقى، ويخلق فيه الشغف بالعلم الذي يراه قوته وكماله، فيكون من كبار العلماء، وما يرقى جسمه من العادات الصحية التي هي ركن في الأخلاق الحسنة، والشيم الكريمة.

إن أكبر عامل في التربية الخلقية إنما هي البيئة الاجتماعية التي يعاشرها الإنسان.

إن المثل العربي يقول:" من عاشر قوما أربعين يوما كان منهم" لأن الله قد ركب في المرء الغرائز التي ذكرنا، فجعلته يتأثر بسواه، وينهج منهج من يعاشره. ومن تلك الغرائز غريزة حب الظهور التي تجعله يريد الاحترام من بيئته، والتقدير والاكبار ممن يختلط به، وهذا لا يكون إلا بالسلوك الحميد الذي يكبره من يعاشره، والأخلاق الحسنة التي يحبها من يختلط به، فتبعثه تلك الغريزة عليها. إنها أقوى غريزة في الإنسان، فتسعة أعشار أعمالنا الحسنة تدفعنا إليها هذه الغريزة، لذلك يجب أن نحف الطفل بالبيئة الاجتماعية التي تحترم الأخلاق الحسنة لتبعثه هذه الغريزة عليها.

إن هذه الغريزة القوية في الإنسان وغيرها من الغرائزهي التي تدفع

الانسان ليتصف بكل ما اتصف به أجداده العظماء الذين عاشرهم، وأعجب بهم، ورآهم وعاش معهم في التاريخ، ليصل مثل غايتهم، ويحتل مثل ذراهم، ويسعد كما سعدوا، ويكون سيدا عزيزا كما كانوا سادة أعزاء. وإذا كان عصره قد هيأ له أسباب الكمال وكثرة الوسائل أكثر مما في عصرهم، فإنه بصفاتهم يربو عما كانوا عليه، ويصل ما لم يصلوه.

إن هذه الآثار العظيمة لتكون لنا بدراسة تاريخ كلأمة عظيمة، وإن كانت أجنبية عنا، كتاريخ الفرس والرومان، والانجليز والألمان، أما تاريخ الإسلام وهو جزء منا، وهو تاريخ أجدادنا، فإن انتباهنا فيه يكون أقوى، وإعجابنا به يكون أعظم، وشغفنا به يكون أشد، فجدواه علينا لا تقدر ولا تحصى، وتأثرنا به يكون أضعاف تأثرنا بتاريخ أضعاف تأثرنا بتاريخ الأجانب عنا.

إن غريزة حب الظهور مما يبعث الإنسان على الشغف بتاريخ أجداده، وعلى التنبه فيه فيزداد تأثره به، لأن أجداده جزء منه، فمجدهم هو مجده؛ وإن هذه الغريزة لتجد شبعها بمشاهدة هؤلاء الأجداد في عروشهم، والتحديق فيهم وهم في حلل مجدهم، وإنها لتدفع الابن ليكون مثل جده فيبحث بدون شعور عن الطريق الذي سلكوا، والأسباب التي أخذوا بها فحققوا تلك الغايات، فتدفعه لسلوك ذلك الطريق، والأخذ بتلك الأسباب، فيتصف بأخلاق أجداده فيكون عظيما مثلهم، ومن الأسود الكاسرة فلا تستطيع ثعالب الاستعمار أن ترتع في عرينه، وتستأسد في غابه؛ لذلك حرم الاستعمار اللاتيني علينا دراسة تاريخ دولنا الإسلامية، ومعاشرة أبطالنا، والاختلاط بأجدادنا وهم في ذروة عزهم، وفي عروش مجدهم، تعنو لهم رقاب الدنيا إجلالا وتعظيما، ويرضى عنهم الله بأخذهم بكل ما أمرهم به من أسباب الصلاح والفلاح، والفوز والنجاح!

إن تاريخ أجدادنا هو الذي يؤثر فينا أكثر، فيجب الاعتناء به، والاعتماد عليه في تربيتنا في البيوت والمدرس والمجتمع؛ أما تاريخ من عاشوا في أرض غير أرضك، وكانوا من غير جنسك، يحملون وراثة غير وراثتك، فقد يوحى إليك هذا بأنك لا تستطيع ما استطاعوا، لأنهم في بيئة طبيعية غير بيئتك، أورثتهم قوى ومواهب لا تكونها فيك بيئتك، وأنهم من جنس قد يخيل إليك أنه أرقى من جنسك، وعلى وراثة كونت فيهم مواهب خاصة قد لاتخلقها فيك وراثتك، فلا يطمح المرء كل الطموح ليصل غاياتهم، ولا يثق بنفسه كل الثقة فيسير في طريقهم، ويتغلب على عقباتهم، فيصل مثل ما وصلوا. أما تاريخ أجدادك الذين نشأوا في أرضك، فهم أبناء بيئتك الطبيعية التي لاتتبدل، وفي دمائك وراثتهم، تلك الوراثة التي انحدرإليك منهم وهي بفضل إعمالهم لها في جهادهم أقوى مما انحدر إليهم من أجدادهم، ففيك من عوامل القوة والنجاح أكثر مما فيهم، فتثق بنفسك، فتسلك طريقهم فتصل ما وصلوا. لهذا حرم الاستعمار اللاتيني على المغرب أن يعرف تاريخ أجداده، لأن تأثرنا بهم يقتضي أن نثور عليه، فندفع ما يكدر حياتنا ويدنسها وينتنها إلى البحر، ونصفي حياتنا وأوطاننا من المرارة والسموم التي ألقاها البحر إلينا!!

إن التاريخ أكبر عامل لبناء الأمم ونهضة الشعوب، وهو من الوسائل الكبرى في التربية الحسنة!

إن التاريخ هو الذي يمكننا في التربية من اختيار البيئة الاجتماعية الصافية الراقية التي نحدث بها الآثار التي نريد في التلميذ. أما البيئة الاجتماعية الواقعية فقد لا تطاوعنا، ولا نستطيع أن نجد فيها كل ما نريد، وإذا وجدنا فإنه لابد أن يشوبه ويقترن به كثير من الأشياء السيئة التي لا نريدها، فيتأثر التلميذ بها، فيتصف بصفات تضعف أخلاقه الحسنة، وتقلل نجاحه في الحياة. أما في التاريخ فإننا نستطيع اختيار العصور الزاهرة، والشخصيات العظيمة، كالرسول، والصحابة، والتابعين، والسلف الصالح من أئمتنا، ورؤساء دولنا، وكبار علمائنا، ونختار من التاريخ كل ما هو حسن فنجعله بيئة للتلميذ ينغمس فيها، ويشغف بها، ويعاشرها بالقراءة اللذيذة، والدرس العميق.

    إن التاريخ لهذا أحسن من البيئة الاجتماعية الواقعية التي قد لا نستطيع أن نعزل منها ما لا يرضينا، ولا نجد فيها كل المُثل العليا التي نريدها، لذلك تجد الله يضرب لنا الامثال في القرآن، فيقص علينا قصص الأنبياء، فنرى صبر أيوب، وعفة يوسف، ويقين إبراهيم، ونسك عيسى، وعظمة محمد عليهم السلام، فيعوضنا الله من تلك القصص التي هي تاريخ للأنبياء ما لا نجده في بيئتنا، ويكمّل بيئتنا الاجتماعية بذلك التاريخ.

   أن مؤلفينا القدماء في الأخلاق كالجاحظ، والغزالي، والجيطالي[1]، وابن مسكويه يكثرون من إيراد القصص في الكتب الأخلاقية، فترانا نعاشر الصالحين في تلك القصص، ونرى جمال الفضيلة في سلوكهم، فنحبهم ويكونون لنا مثلا أعلى، نحذو حذوه، ونسلك طريقه. وترانا نصدر من القصة التي رسمت لنا شخصية نيرة، ونحن نحس في نفوسنا شعاع من نورها، وآثارا منها. إنه إذا تكرر ذلك واطرد، فإننا بعد حين نكون على غرار من عاشرنا، ومثل من اختلطنا به في القصص التاريخية وأعجبنا به!

عناية الأوروبيين بتاريخهم وانتفاعهم به:

إن الأوربيين قد عرفوا آثار القصص التاريخية للعظماء في بناء الأخلاق العظيمة، والتربية الحسنة، وتهذيب الأمة، فاعتنوا بتاريخ أجدادهم وعظمائهم، فأبرزوه في أسلوب قصصي جذاب، يجعل الناشئة تغرم به، وتستغرق في قراءته، وتتنبه كل التنبه إليه، فيتأثرون بأجدادهم العظماء، ويحافظون في أمتهم على تقاليدهم الحسنة التي هي سبب عظمتها وبقائها.

وترى الأوربيين يجعلون شبابهم وأمتهم تعيش مع أجدادها العظماء دائما لا تنقطع عنهم، فتجدهم يؤلفون الروايات التاريخية التي تصور عظمة أولئك الأجداد، فيقدمونها في المسارح، والسينما، والتلفزيون، ويكتبون المقالات في ذكرى عظمائهم، وفي أعيادهم الوطنية والدينية، ويلقون الخطب، وينشئون الأغاني، فيجعلون الأمة بكل هذا تختلط بأجدادها العظماء وتتأثر بهم، وتثبت على نهجهم القويم، وتقاليدهم الحسنة. وترى السينما والتلفزيون والمسارح عوامل للبناء، وأسبابا للتربية الحسنة، وأبوابا للخير والنجاح والتقدم لشعوبهم، وتجدهم يستعملون الأغاني الشجية في تصوير عظمائهم، والتغني بأمجادهم، وبث الحب والإكبار في نفوس الأمة لعظمائها. أما أفلامنا العربية فتجد أغلبها "ديناميت" الأخلاق، وسموما للأمة، بما تعرض على أبنائنا ونسائنا ورجالنا من مناظر الخلاعة والتهتك، وبما تسمعنا من أغانيها المائعة الماجنة التي تزين الخنا، وتدعو إلى الخيانة، وتهدم ما ترك الاستعمار من آثار الدين في نفوسنا!! إنها باب للشرور والفناء فتحه الاستعمار علينا أيام احتلاله لنا لازال يتدفق علينا بما يقتلنا. ليت رجال ثوراتنا في الأقطار العربية يسدون هذا الباب، ويكفون هذا الشر، فيعدموا كل الأشرطة الخليعة، ويطردوا من التمثيل كل خليعة وخليع، فلا يتركوا إلا ذوي الأخلاق المتينة، والذين يتركون في الأمة التي يغشونه الآثار الحسنة! إن تلك الأشرطة السينمائية الخليعة التي تهدم الدين ومتانة الأخلاق في النفوس، وتبث عبادة المظاهر، وحب الفخفخة، وتلك الأغاني الخليعة المتباكية التي تحلل الأخلاق أكبر ما أخشاه على مغربنا الناشئ الذي خرج من أشداق الاستعمار وهو  في أشد ما يكون من الحاجة لما يركز ويقوى فيه ما ترك فيه الاستعمار من متانة في أخلاقه!

إن ما تبقى من متانة الأخلاق في نفوس المغرب هي العدة التي صرعنا بها المستعمرين فتحررنا! ليت مغربنا يحرم الأشرطة السينمائية الخليعة، ولا يعرض على الشعب إلا ما يجعله يعيش مع أجداده العظماء. وليت إخواننا في المشرق الذين تنشأ الأفلام الخليعة في بلادهم والأغاني الماجنة يكفونها عنا فلا يأذنوا للجوقات الموسيقية الخليعة، وللأشرطة الماجنة أن تدخل بلاد المغرب فإنها السبب الذي يهدم سمعتها، ويقتل الاحترام لها في النفوس!

مزايا التاريخ التربوية على دروس الأخلاق النظرية

إن التاريخ أجدى في التربية، وفي غرس الأخلاق الحسنة، والذود عن الأخلاق السيئة من دروس الأخلاق النظرية، ومن الوعظ والإرشاد النظري، لأن التاريخ يجسم جمال الفضيلة في سلوك الصالحين، فنكون أكثر إدراكا له، وأشد إعجابا، وأقوى تأثرا، ويجسم الرذيلة في سلوك المذنبين فنكون أكثر إدراكا لبشاعتها، وأشد نفورا منها. والمرء يتأثر بالمحسوس الواقع الذي يدركه بحواسه، أو يرسمه التاريخ والقصة في خياله، فيتمثله في حقيقته وكأنه يراه، أكثر من تأثره بالمعاني التي تحكم بجمال الفضيلة، وبقبح الرذيلة، فتحثه على الأولى، وتنهاه عن الثانية. و لعل التاريخ الذي يرسم في خيالنا عظماءه ومختلف شخصياته يجعلنا أكثر تأثرا مما لو شاهدنا أولئك بعيوننا،لأن الخيال قد يزيد في الصورة فتكون أكثر مما هي في الواقع، ويضفي عليها من تهاويله ما يجعلها أحسن مما هي في الحقيقة. والتاريخ يقدم إليك الشيء مشروحا ظاهر الأسرار، بين الخفايا، فتدرك كل حقيقته، فيكون تأثرك بالغا على حسب الإدراك، أما الحواس فقد لا تطلعك إلا على الظواهر، فترى الرجل العظيم فلا تعرف إلا بعض مزاياه أو لا تعرف شيئا، فتظنه من عرض الناس وهو زعيم قومه، وعبقري فذ في أمته.

إن الإدراك الحسي في الإنسان أقوى من الإدراك المعنوي، لذلك كان تأثره بالمحسوس الذي يراه أو يتخيله أكثر من تأثره بالمعاني التي يفهمها ويعيها. والتاريخ هو الذي يرسم في خيالنا ذلك المحسوس الواقع، فلذلك كانت أثره أبلغ وأرسخ من آثار الوعظ والإرشاد النظري الذي لا يقترن بالقصص التاريخية وبالحكايات التي تجسم معانيه.

والتاريخ يقدم إليك الفضيلة مصحوبة بعاقبتها الحسنة، مقرونة بجدواها العظيمة فتكون كالنظرية يؤيدها الدليل الذي يصاحبها، والدعوى تثبتها الحجة القوية التي تكتنفها، فلا يسع المرء إلا الإيمان بها، والخضوع لها، والأخذ بما جاءت به فالصلاح في الصالحين نراه مقرونا بالنجاح الذي حصلوا عليه، والأخلاق العظيمة في العظماء نراها مصحوبة بالزعامة والعبقرية، والمجد الذي تتوجوا به، فنرى الفضيلة فيهم هالة مشرقة من عاقبتها الحسنة، ونحس بها في حلاوة عائدتها الجميلة، فيكون إيماننا بها أشد، ورغبتها فيها أقوى، فتثور غريزة السيطرة وكثير من الغرائز فتبعثنا عليها فنتصف بها. وكذلك الرذيلة، فإنها تبدو لنا في التاريخ متجسمة في سلوك المذنبين، مقرونة بعاقبتها الوخيمة، فنراها في بؤس المذنبين، وفي مشنقة المجرمين، وفي جحيم الله الذي أعده للعاصين، فتبدو لنا في أبشع صورها، وفي هو لها ونكرها ونراها عقربا سوداء بادية النكر، شائلة الذنب، تبدوا لنا سمومها، وما تفعله بمن يقرب منها، فتكون نفوسنا أكثر نفورا منها، وأشد مقتالها، وأكثر حردا عليها، فنتنزه منها. أم المواعظ النظرية، ودروس الأخلاق المعنوية، التي لا تؤيد بالقصص التاريخية، فإن المرء لا يزيد بها على أن يلين قلبه بعض اللين، وتدمع عينه بعض الدمع، ثم يقسو قلبه، وترقأ دمعته، وينسي ما سمعه من المعاني، لا تفجر المعاني منه ما يفجره المحسوس الواقع الذي يرسمه التاريخ في خيالنا من دموع غزيرة تغسل نفوسنا من الأدران، ويطهرها الوجدان المتأجج بالتحسر والندم، فتكون صافية بيضاء ناصعة كالثوب الأبيض الذي غسلناه فأجريناه عليه المكواة الحامية، فأرجعت له جدته، وأزالت تجاعيده، ومنعته من التسوس والبلى!

والتاريخ للاتعاظ والاعتبار فيجب أن نقف في هفوات الأجداد، وما أثار الأعاصير عليهم، فنصوره للأحفاد، ونحذرهم منه، ونفتح عيونهم على ما أودى بدولنا القديمة، من أمراض، كالانغماس في الحضارة، والركون إلى الراحة، والاتصاف بالأنانية، و بالعصبية القبائلية والمذهبية، وبالحسد الذي هو أم هذه الخبائث كلها، وهو الذي أودى بدولنا الإسلامية، وشقق جماعة المسلمين، فداخلها سوس الاستعمار ورتع فيها ذباب أوروبا، وطمعت كل الحشرات الضعيفة. يجب أن نحذر الأبناء مما وقع فيه الآباء، ونبيد في نفوسهم بالتاريخ الصحيح العقد النفسية الموروثة التي ثبتها الاستعمار في نفوسنا ليمزق شملنا، ونريهم خطأ الأجداد فيما أخطأوا فيه، ونحذرهم من العاقبة الوخيمة التي جرتها على اجدادنا تلك الذنوب. إن هذا أكبر فرض يجب على المربي في دروس التاريخ، وإلا يكون مقصرا في التربية، مخلا بواجبه الوطني، لم يأت أهم ما يجب عليه في بناء الجيل الجديد الذي يجب أن يكون خاليا من العقد النفسية الموروثة، ومن العقائد البالية الفاسدة ليكون صفا مرصوصا، وبنيانا متينا فيصل بمغربنا الحبيب إلى الذرى العالية التي تؤهله لها متانة أخلاقه، والبطولة الموروثة من أجداده، وتمسكه بدينه وبالأخلاق الإسلامية التي تسعده وتنيله رضا الله!والتاريخ للتربية العقلية، فيجب أن نعمل عقل التلميذ فيه كل الإعمال، فنكلفه ان يستنبط من المقدمات التي سمعها ما تقتضيه من نتيجة، فإذا سمع باستقامة دولة وتمسكها بالدين، ورسوخها في الصراط المستقيم، فإنها لابد أن تكون على القوة والازدهار، وعلى النجاح في كل الأمور، والتقدم والتفوق في كل النواحي، فيجب على المربي في درس التاريخ أن يسأل التلميذ ليعمل عقله فيتوصل إلى هذا الحكم، ويعرف هذه النتيجة، فيكون قد ربى فيه الخلق بإلفاتهإلى عائدة التمسك بالدين، وربى فيه العقل بالاستنباطوالاستخراج!وإذا أراه دولة تتنكر لدينها، وتعرض عن الإسلام، وعما أمر به القرآن، وتحتقر الدين وتزدريه، وتأخذ بالمذاهب الهدامة التي وضعها أعداؤها، وبالقوميات الضيقة التي اخترعها أعداء الإسلام، فإن عاقبتها لا شك هي الدمار والاضمحلال، وما تبوء به إنما هو الخسارة والهلاك، والتمزق والتفكك، وما يكون لها في صدور الأحرار والأمم إنما هو الاحتقار والازدراء، فيجب أن نترك التلميذ يستنبط هذا، ونحثه أن يعمل عقله فيتوصل هو إلى هذه النتيجة، فنكون قد قوينا انتباه إلى ما يجب أن يتأثر به في التاريخ، وقوينا عقله بإعماله فيه، كما يجب أن تكون التمارين التي يعقب بها كل باب مشتملة على أسئلة تدعو التلميذ إلى الاستنباط وتعمل عقله باستخراج نتيجة من مقدماتها.

فن تدريس التاريخ.

إن التاريخ أكبر وسيلة للتربية والخلقية، وأعظم عامل يحرك الشعوب وينهضها، ويدفعها إلى أسمى الغايات، وهو أقوى مطهر للأمم من أمراضها فلذلك حرمه الاستعمار علينا، وكاد أعداؤنا له، فترى أعداء العربية يتخذون كل وسيلة لصرفنا عن تاريخ رسولنا محمد عليه السلام، وتزهيدنا فيه، وترى البلداء الضعفاء الجهلة الذين سممهم الاستعمار، وركبهم إلى غايته، وإلي قتل أمتنا، يرون من العصبة الاعتناء بتاريخ الرسول كل الاعتناء، وتخصيص أكثر ما يمكن من الحصص ومن الجهد لتاريخ دولنا الإسلامية، وتاريخ أجدادنا، ولعل الله يقي المغرب من هذه المذاهب الهدامة، ومن هذه الفئات الجاهلة المريضة، فإنها لعمرك شر من المستعمرين ومن استعمار اللاتيني الحقود الذي كنا في جحيمه.

إن التاريخ للتربية الصحيحة ولبث الروح القوية في الأمة، وإذكاء الحماس للمثل العليا في القلوب، ولكن التاريخ لايؤتى ثماره ونتائجه التربوية العظمى إلا إذا ألقينا دروسه في تحليل علمي، وفي روح خطابية، وفي أسلوب طلي. إن شخصية المدرس هي التي تؤثر بالتاريخ، فيجب أن ينبع التاريخ من أعماقه متأججا بوجدانه، ومن عقله ممتلئا بفلسفته، لامن لسانه وحده، فيكون أخبارا باردة يسردها، وأنباءا عتيقة ميتة يحكيها. إن المربي لا يستطيع أن يكون على ذلك الحماس وعلى تلك الروح المؤثرة القوية في التاريخ إلا إذا أتى بدرسه وبمحاضرته في رأسه، لا في كراسة، فتنبع من أعماقه حارة دسمة تشبع العقول، وتحرك النفوس، أما (السندويتش) البارد الذي يأتي به في الأوراق فإنه لا تسمن به العقول، لأنها لا تتنبه لما يقول إلا إذا ألهب حماسها بحماسه، وتفجرت معانيه في التاريخ من عينيه ومن كل جوارحه وكان في التاريخ فيلسوفي وخطيبا.

لنحقق النتائج التربوية بالتاريخ يجب أن يتحمس المدرس والمحاضر المربي للفضيلة في تاريخ العظماء، ولكل الأشياء الحسنة في الأمة التي ندرسها، والدولة التي نعرض تاريخها ليفيض وجدان المدرس والمحاضر على تلاميذه فيكون وجدانهم، فيعجبون مثله بالفضيلة، فينتبهون إليها، فيدركون جمالها، ويكونون مثله في التعلق بها، والرغبة فيها، كما يجب أن يمتلئ كرها للرذيلة، وللخيانة، ورقة الدين، وكل الأشياء السيئة في التاريخ، ليكون تلاميذه على وجدانه فيمقتونها، ويهربون منها.

 يجب أن نكون نزهاء أمناء في التاريخ، لا نتعصب، ولا نقلد، ونتنبه كل التنبه في كتب التاريخ الإسلامي القديمة، فإنها مملوءة بأكاذيب الملوك، ودعاياتهم الباطلة، ويجب أن لانترك إلفنا وماردده أجدادنا فاستقر في عقلنا الباطن يكون أحكامنا في التاريخ، يجب أن ننظر بعقولنا، ونبحث بحثا منطقيا خالصا لا توجهنا فيه العواطف الموروثة، ونعتمد في أحكامنا على الأدلة القوية، والبراهين الساطعة، والنصوص الصحيحة، ونوسع دائرتنا في البحث فنطلع على كل المراجع بدون تحيز ولا تعصب، فإذا توصلنا إلى حكم صحيح نؤمن به فحكمنا على شيء بالحسن، فيجب أن نتحمس له، ونوجه أنظار التلاميذ إليه، فنكون كالذي اكتشف هلال العيد في أثناء السحب فإنه يوجه الأنظار إليه في رنة تؤذن بالبشرى، وتفيض بالأفراح!

إن العاطفة والحماس يجب أن لا يلابسنا في الحكم لا للحكم، ويجب أن نخلو منهما أثناء البحث والتأمل لا بعد الحكم الذي نؤمن به، والنتيجة التي نتيقنها.

إن التاريخ فن فلسفي علمي أدبي يجب أن لا يسند تدريسه إلا للفصحاء الذين وهبهم الله اقتدار في التعبير،وقوة في العقول، يستطيعون بها التحليل والاستنباط، وكانت الشخصية الخطابية فيهم قوية. أما العاجزون الضعفاء، ذوو الهمود في الوجدان، والعجز في اللسان، والبرودة في الكلام، والضعف في الذكاء، والذين تعوزهم الفصاحة والاقتدار على التعبير، فتراهم في حبسة تنتأ فيه عيونهم كالمحتضر، فإنهم لا يلدون إلا المعاني الميتة، ولا يزيد التاريخ على أيديهم أن يكون مجلبة للنعاس، ومدعاة للسأم، وسببا للإعراض.

يجب أن لا يسند تدريس التاريخ لمن كانت شخصيته علمية محضة، فإنه يقتله، ولا تجدى معلوماته الغزيرة فيه، وذاكرته المحشوة بمادته.

أسباب قوة الذاكرة في التاريخ:

إن التاريخ أصعب الفنون رسوخا في الذاكرة، وبقاء في الحافظة، فالنسيان يسرع إليه أكثر من كل الفنون فيجب الأخذ فيه بكل ما يقوى الذاكرة. إنه لا يقوى الذاكرة شيء كالانتباه القوي، والملاحظة التامة، وهذا لا يكون إلا بالحماس الذي يؤرثه المربي في نفس التلميذ بدرس التاريخ فينتبه كل الانتباه إليه.

وقوة الذاكرة تكون بكثرة الروابط، فلابد من ربط الحقيقة الواحدة بحقائق كثيرة مما يشابهها ويتصل بها من معلومات التلميذ القديمة، زمن ربط حقائق التاريخ بعضها ببعض، فتاريخ نشأة الدولة يجب ربطه بتاريخ انقراضها، وبمكانها، وعاصمتها، وبأول رؤسائها، فتربط هذه الحقائق في نفس التلميذ فإذا تذكر واحدة استتبعت أخواتها، فيحصل بهذا التكرار الذي نرسخ به المعلومات ونجددها؛ ولكن هذا الربط لا يستطيعه إلا العالمون بكل فصول التاريخ، العارفون كل المعرفة بأبوابه كلها. أما من ينقل الدرس من الكتاب فيردده كالحاكي، وينفث به كالراقي، ثم ينساه، فإنه لا يستطيع هذا الرابط الذي هو أساس رسوخ العلوم في الحافظة.

إن الإكثار من الروابط في الدرس، وربط الجديد بالقديم يضمن لنا أيضا التكرار غير الممل الذي ترسخ به المعلومات في ذهن التلميذ.

إن باب تداعي المعاني في كتب علم النفس التربوية، وباب الذاكرة والحافظة، مما يفرض على كل معلم أن يدرسه، مع ما يجب عليه من دراسة كتب علم النفس التربوي، وكتب التربية والتعليم. ليت مدرسينا في المغرب يأخذون بحظهم الكامل منها، ليكونوا رجال التربية فيه أيضا. وليت حكومات المغرب تقصي عن مدارسنا كل هزيل لا توجد فيه شخصية المعلم، ولا يرغب في وظيفة التربية والتعليم المقدسة ولا يغرم بها، فيستعد لها بدراسة كتب التربية والتعليم، ومتابعة تطور هذا الفن العظيم الذي تقوم عليه عظمة الأمة وتطورها.

وبعد كل ما تقدم في شخصية المدرس وفي الدرس، يجب أن نعقب كل باب في التاريخ بتمارين مفصلة نسأل فيها عن كل شيء يكون عرضة للنسيان، فإن هذا أكبر وسيلة لرسوخ التاريخ في ذهن التلميذ.

ومن وسائل رسوخ التاريخ أن نكلف التلميذ بعد انتهاء المحاضرة التي أصغى إليها بكل اهتمام أن يكتب خلاصتها من ذاكرته، فإن هذا يضمن انتباهه في الدرس ليستطيع هذا، ويضمن استعادة المعلومات التي هي من الوسائل الكبرى في قوة الحفظ لما فيها من التكرار المصحوب بالانتباه. أما كتابة التلاميذ للمحاضرة في وقت إلقائها، فإنها تصرفهم عن الانتباه، فلا يزيدون على ملء صفحات الكراس ثم لا يبقى شيء في الرأس. يجب أن ينقش التلميذ درس التاريخ في رأسه، ثم يستعيده ويكتبه في كراسته. إن في هذا مع الحفظ القوي، تمرن على الانشاء!

هذه قواعد في فن تدريس التاريخ أقدمها لإخواني وأبنائي في مدارسنا، وهي خلاصة تجربتي،  وقواعد التزمتها في محاضراتي في تاريخ المغرب بمعهد الحياة، فنجحت كل النجاح والحمد لله، فصار تاريخ المغرب بالمعهد هو المادة الحبيبة إلى نفوسالتلاميذ وهو العلم الراسخ في أذهانهم، والفن الذي يأخذون فيه أعلى الأرقام رغم شدتي في الامتحانات.

إنها قواعد يقررها فن التربية والتعليم، وتؤيدها تجربة لي استمرت أربع عشر سنة كاملة في المعهد، فعسى إخواني في مدارسنا يزدادون بها إيمانا بما يعرفون، أو تنبها لما لم يعرفوه كله، فيأخذوا الأهبة الكاملة فيه. وأرني مقصرا إذا قدمت في مدارسنا في المغرب وكلياتنا مادة هذا الكتاب، ثم سكتت عن الطرق التي جربتها في تدريس التاريخ فنجحت بها كل النجاح والحمد لله.

إن التاريخ هو الفن العظيم الذي حرمنا الاستعمار البغيض منه، و حرمه علينا فيجب أن نبادر بعد استقلال المغرب فنأخذ حظنا منه، وننتفع به في تربية الأجيال القادمة، ونبرز تاريخنا وثوراتنا المباركة في المغرب في أسلوب أدبي طلي يحببه إلى القراء، وفي تحليل علمي وبحث نزيه يصفيه من الأكدار والأكاذيبالتي ملأه بها الملوك القدماء والمستعمرون. إن هذا فرض على أدباءنا العلماء بعد الاستقلال!

إن الكتاب المغربي هو وجه المغرب الذي يرانا فيه إخواننا، فيشعرون بوجودنا وإن لغتنا العربية المقدسة التي أصبحت لغة حكوماتنا فتفتح لها المجال في مغربنا الجديد، يجب أن ننعشها بالتأليف، ونبرد لهفة المغرب منها بالتصنيف والنتاج الرفيع.

يجب أن نقوم بواجبنا في ترقية لغتنا، وننهض بنصبيها من الحمل في هذا الباب، ولا نكون عالة على اخواننا فيما نستطيعه.

ان الكتاب المغربي العربي هو المرآة التي يرى العالم، ويرى إخواننا فيها وجه المغرب العربي الجميل، وإذا كان الكتاب مرآة لأجدادنا، وفي تاريخ مغربنا، فقد تضاعف الجمال، وزادت الجدوى!

وبعد فماهي الأسباب التي دفعتني لتأليف (تاريخ المغرب الكبير) وكيف ألفته هذا ما يجب على أصدقاء القراء أن يعرفوه.

لماذا ألفت هذا الكتاب؟

لما رجعت من القاهرة إلى الجزائر في سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف هجرية                  

(1948م) بعد انتهاء دراستي، كان في الجزائر معهدان وطنيان ثانويان للغة العربية أحدهما في شمال الجزائر وهو معهد عبد الحميد ابن باديس الذي تقوم به جمعية العلماء والثانيفي جنوب الجزائر بالقرارة وهو معهد الحياة للغة العربية والتربية الإسلامية تقوم به جمعية الحياة التي يرأسها الشيخ بيوض ابراهيم إمام النهضة العربية الحديثة في جنوب الجزائر، وعالم الجزائر الكبير، وخطيبها الفذ. فدعاني معهد الحياة للقيام معه بالواجب الوطني والديني في ميدان التربية والتعليم، وآثرته أنا أيضا. فكان من الفنون التي أسندها إلى للسنتين النهائيتين في المعهد تاريخ المغرب الكبير. فأساءني أن لا أجد كتابا دراسيا في تاريخ المغرب يليق للثانوي، على الروح التي أريد، وعلى الأسلوب الذي ينبغي، وعلى المنهاج الذي يحقق النتائج التربوية من التاريخ.

فكنت عقب كل محاضرة أكتب نصوصها وخلاصتها للتلاميذ بأسلوب أدبي رائق يزيد للتاريخ وضوحا، ويكسبه طلاوة تحببه إلى النفوس، وبروح مؤثرة تجعله ذا آثار بالغة في النفس. فكان إقبال التلاميذ على تلك الخلاصات، وانتشاؤهم بدراستها، ورغبتهم فيها، وتأثرهم بها أكثر مما انتظرت، وأبلغ مما رجوت، فاستمرت تلك الخلاصات إلى آخر الدروس فتكون منها كتاب هو الذي أقره المعهد في تاريخ المغرب. وعسى الله أن يمد في الأجل، ويمد بالعون فأطبعه لتنتفع به مدارسنا. وفي سنة تسع وستين وثلاثمائة والأف هـ (1950م) عزمت أن أكتب شيئا في تاريخ المغرب الكبير بأسلوب أدبي، وتحليل فلسفي، وببحث علمي نزيه يليق لمطالعة مثقفينا، ويكون مرجعا ومصدرا لجامعتنا ومدارسنا، ويصفي أبواب تاريخ المغرب التي كدرتها ودنستها أكاذيب الملوك القدماء، ودعايات المستعمرين وسمومهم، فصارت خطرا على المغرب، ومنبعا للسموم التي تكدر صفاءه، وتفرق جماعته، وتمكن الحساد والدساسين من بث الفرقة والشقاق في مغربنا الحبيب. فكتبت في سنة سبعين من الهجرة، وفي إحدى وسبعين، وفي أوائل اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف (1951 و52 و53م) مسودة الأجزاء الثلاثة الأولى من (تاريخ المغرب الكبير) فصرت أفكر في طبعها، ولكنني أبيت أن أفرغها في القالب النهائي، وأعدها للطبع قبل أن أقوم بجولة واسعة لأطلع على كل ما أستطيع الاطلاع عليه من كتب تاريخ المغرب، سيما المخطوطات القديمة. فزرت في عطلة الربيع لسنة ثلاث وسبعين هـ (1954م) خزائن كثيرة من المخطوطات لا زالت محفوظة في جنوب الجزائر لم تمتد إليها أيدي الاستعمار التي جردتالمغرب من كتبه القديمة، ومن مؤلفات أجدادنا في التاريخ، فوجدت فيه من الكتب المخطوطة، ومن الوثائق التاريخية شيئا كثيرا مما أريد. ثم عزمت على زيارة مكاتب تونس الخضراء، ودار الكتب العربية في القاهرة؛ هذه الدار العظيمة الحبيبة التي درست فيها تاريخ المغرب فصرت أعرف الكثير من مصادر التاريخ فيها. وكان الاستعمار الفرنسي قد ضرب الأسوار الحديدية بين الجزائر والقاهرة والأقطار العربية، فصرت منذ الربيع أسعى للحصول على جواز عام للسفر يمكنني من السفر في عطلة الصيف. فكان الله معي فحصلت على جواز للسفر طويل الأجل. ولما أوشكت عطلة الصيف أن تبدأ صرت أطرق الأبواب للحصول على تأشيرة الدخول في مصر. فأرسلت جواز السفر إلى (مرسيليا) وبعد ضمان مالي كبير وضعته في بنك الجزائر، وبعد مساع ووقت طويل، وقلق كبير حصلت على تأشيرة الدخول في مصر على أنى مار إلى الحجاز، وتلك هي العلة التي تسترت بها للحصول على الجواز. فسافرت في أول العطلة إلى تونس فغبرت شهرا في مكتبتها الوطنية، وفي المكتبة العبدلية، اطلعت فيهما على كثير من مصادر تاريخنا، ثم وصلت دار الكتب العربية في القاهرة فأسرعت إلى كرسي رقم 61 الذي بنيت فيه نفسي في قاعة المطالعة فصار أعز مكان لدي في الدنيا بعد المعاهد الذي نشأت فيها!فوجدت من أصدقائي القدماء فيها، ومن أمنائها، ومن رئيس قاعة المطالعة فيها صديق السيد الحاج عبد الهادي ياسين، ومن مراقب الدار العام السيد عبد المنعم عمر كل ترحيب وإجلال ومساعدة. وكنت أطلب أحيانا عشرين مجلدا فسيروعون بها إلي، فطلعت على فهاريس التاريخ كلها في دار الكتب فوجدت الكثير مما أريد، فاطلعت على المهم منه، سيما المخطوطات والكتب المطبوعة النادرة الوجود. فانقضت عطلتي الصيفية بعد شهرين أمضيتهما في دار الكتب الحبيبة.

وكانت هذه الدار جزءا من نفسي! وكانت القاهرة هي المدينة التي آنس إليها، وأجد فيها نشاط فكري، وأستطيع أن أعطي نفسي فيها للعلم. فعزمت أن أطلب في الصيف المقبل من المعهد عطلة طويلة فأعكف في دار الكتب وفي القاهرة الحبيبة فأسكب مسودة كتابي في الصيغة النهائية، وأزيد فيها ما تكون لي من نظريات ومعلومات، وما سأستفيده من المراجع الجديدة، وأطبعه في القاهرة، فإن الطبع فيها أجود، وحرية التأليف والنشر فيها أكثر مما عندنا في المغرب. فلما وصلت الجزائر قامت الثورة المقدسة في أول نفامبر(1954) فسكتت الأقلام وتكلمت المدافع، وعكفت الأمة الجزائرية كلها على كتابة تاريخها الأغر بدمائها، فتوقف عملي في هذا الباب. فصارت مسودة الجزاء الثلاثة مناط أملي، وأعز شيء لدي. ولما اصبحت دور المثقفين ورجال العلم بعد قيام الثورة مهددة بالتفتيش، واخذ كل مخطوط عربي وتفتيشه والقضاء عليه إن لم يرقهم، واعتقال صاحبه، وكنت اعرف نظرتهم غلى تاريخ المغرب، سيما وما كتبته في الجزء الأول في الاستعمار الروماني مما يثيرثائرتهم، ويقيم قيامتهم! فجعلت مسودة كتابي في صندوق خشبي لا مسامر فيه لكي لا تكتشفه آلاتهم التي تدل على الحديد، فردمته في الحديقة، فبقي فيها زمنا، فخفت أن تتسرب إليه الأنداء فتتلفه، فوضعته عند صديق مكن الهادئين الذين لا يلفتون أنظار الاستعمار، ولا يفكرون في تفتيش داره. كنت كلما هوجمت القرارة، وفتشت بعض نواحيها أضر إلى الله أن يحفظ دار الصديق ويحفظ مسودة الكتاب. وطوقت القرارة في جمادى الثانية 1381هـ آخر أكتوبر 1961م بكتائب الجند الفرنسي الحقود، وأحيطت بالمدافع والدبابات، وأخليت من السكان، فضربت عليهم السلاك الشائكة في ظاهر المدينة، وأحيطوا بالمدافع الرشاشة وبالدبابات وبنطاق من الجند المسلح!فهجم الجند الفرنسي المسعور على المدينة ليقبض على خلية جبهة التحرير فيها، وعلى جند جيش التحرير الذين قال لهم جواسيسهم إن القرارة صارت من مراكزهم في الجنوب، وليملأواأيضا جيوبهم، وعرباتهم، وسيارات نقلهم، ويطفئوا أحقادهم في القرارة التي يرونها أكبر منبع للعروبة والدين في الجزائر، ومنبع اليقضة الذي يشعل نار الحماس والوطنية في منطقة ( النفط) الأثيرة.وكنت وأنا في الأسلاك الشائكة أسائل الصديق الذي وضعت عنده مسودة الكتاب ويسائلني: ترى هل يفتشون الصندوق الذي أخفاها فيه؟ وهل تسترعي انتباههم خرائط الكتاب التي لفت فب خشبة طويلة فعلقت في الحائط فصارت كالعلم الملفوف. وكنت قد قسيت جها كبيرا في وضع خرائط الجزء الأول والثالث.

وامضيت ثلاث سنين في التنقيب عن حدود الدول المغربية في القرن الثاني والثالث الهجري وقبل الإسلام فثم وضعها فصارت وثيقة تاريخية نفيسة لا توجد في كتاب، قد يظنونها علم الجزائر فيفتحونها، فإذا وجدوا الخرائط ترسم فوق أديم الجزائر حدود دولنا الإسلامية وتشير إلى استقلال الجزائر القديم، وتنم عن الوطنية والتاريخ العربي، فويل للصديق وداره!أن أقل مايرتكبونه أن يخلوا الدار من أثاثه فيتركونها صحراء خاوية، ويمزقون الخرائط والكتاب. ولكن قلبي كان مطمئنا، وكنت موقنا بأن كتابي وخرائطي سيحفظها الله لأنني ألفتها بنية حسنة، وأردت بها نفع إخواني في الأقطار العربية والإسلامية، وخدمة الدين والعربية في المغرب، والقضاء على أسباب التفرقة التي يبثها الاستعمار متدرعا بأكاذيب الملوك القدماء على المغرب!وبالتاريخ المشوه الذي أوحوا به إلى دعاتهم! فانتهى التفتيش الذي استمر ثلاثة أيام قامت به كتائب جرارة من الجند المسعور، ففتشوا الديار كلها حجرة حجرة، وأعادوا تفتيشها ثلاث مرات. وانتهى اعتقالنا في الأسلاك الشائكة، فدخلنا المدينة فعلمت أن الله معي. إن دار الصديق قد فتشت كل حجراته واكتشفوا عن خزائنها، واطلعوا على كل ملفوف محجب فيها، ولما وصلوا حجرة كتابي وخرائطي أطلوا عليها من الباب فانصرفوا، فلم تسترع انتباههم الخرائط الملفوفة ولا الصندوق الكبير المغطى في واجهة الباب. فعلمت أن الله معي! وكانت أفراحي بنجاة مسودة كتابي وخرائطي  لا تقدر، فزاد هذا في عزيمتي على إبرازه في أول سنة من استقلالنا، ليكون القربان الذي أقدمه شكرا لله على النصر، وعلى خروجنا من المعركة والمحن ظافرين!

أراك تظن يا صديقي سأوزع كتابي مجانا (يدك على جيبك يا خوي) فإن ما تشتريه به ثمنا للورق والطبع وتكاليفه الأخرى، وفصوله وأبوابه هدية إليك أيها القارئ العزيز على أن يحفظ لي حق إعادة الطبع والنشر وغيره كما بينا!

كان الله معي، فمدني والدي الكريم بكل نفقات الطبع، وجمع لي كل ما استطاع جمعه من دارهمه، فازددت عزما بهذا. فوصلت القاهرة في منتصف سبتمبر الماضي 1962 فشرعت في إعداد الجزء الثاني للطبع وأنا منتش باستقلال الجزائر ورجوعي إلى القاهرة الحبيبة!

لماذا بدأت بطبع الجزء الثاني؟

وكانت مسودة الجزء الأول الذي يشتمل على تاريخ المغرب قبل الإسلام لا تحتاج إلى زيادةوتعديل كبير، فهي على نحو يرضيني، وعلى مادة كافية، وكانت آخر ما كتبت بعد اطلاعي على كل ما أمكنني من الكتب في تلك العصور. ثم إن تاريخ المغرب قبل الإسلام وإن كانت حلقاته مظلومة فإن الذين ظلموه إنما هم الرومان والمستعمرون اللاتينيون الذين يتبين أبناء المغرب أكاذيبهم وتشويههم لتاريخ أجدادهم أما الفتح الإسلامي، وتاريخ المغرب في القرن الثاني والثالث الهجري، فقد كان الذين شوهوه بالأكاذيب إنما هم الملوك القدماء وصنائعهم من المؤرخين المسلمين الذين ينخدع بهم أبناؤنا وإخواننا في المشرق، فيقعون في أخطاء فاحشة تسيء إلى المغرب، وينظرون أجدادهن في صورة بعيدة عن حقيقتهم المشرقة، وشخصيتهم الجميلة، ووجههم الوضاء! ويقعون في الأغلاط التي طالما استغلها الاستعمار لبث الفرقة والشقاق في مغربنا الحبيب. لهذا بدأت بطبع الجزء الثاني والثالث لأن مسودتهما لم تتم فالعمل فيهما أشق وأكثر، والحاجة إليهما أكبر، ودراهمي لا تتسع لثلاثة أجزاء.

لماذا يتهجم الملوك القدماء على المغرب

كان المغرب في القرن الثاني والثالث أول قطر إسلامي أحيا الإمامة العادلة، والجمهورية الإسلامية الصحيحة بعد ما قضى عليها الأمويون والعباسيون في المشرق وبايع الأئمة العادلين والرؤساء المتقين الذين اختارهم في حرية كاملة، فساروا فيه سيرة الخلفاء الراشدين!فسعد وازدهر، ودخل أعراسه وأفراحه، وصار ملجأ للمضطهدين في كل أنحاء العالم الإسلامي! فاغتاظ الملوك الأمويون والعباسيون لانفصال المغرب عنهم، وإحيائه للإمامة العادلة، والجمهورية الإسلامية، واتجاه الأنظار إليه، وإعجاب أهل المشرق بما في دول المغرب من حرية وعدل ومساواة ودين، فبثوا فيه دعاية سوداء ليصرفوا الأنظار عنه، وعن نظام الإمامة الجمهوري الذي أخذ به، فشوهوا هذه الفترة الزاهرة من تاريخه! وجاءت الدولة العبيدية فقضت في آخر القرن الثالث الهجري على دول المغرب المستقلة، وقضى ملوكها على كتب التاريخ لتلك الدول الجمهورية، وبسطوا فيها دعاية مسمومة كاذبة ليقتلوا دول المغرب العادلة في القلوب، ويصرفوا نظر أهل المغرب عن الإمامة الإسلامية التي سعد بها المغرب وانتشى بحلاوتها! فامتلأت كتب التاريخ الإسلامي بالأكاذيب على تلك الدول التي آثرت الجمهورية الإسلامية، وأبت النظام الملوكي واستبداد الملوك. فجاء الاستعمار اللاتيني فاستغل تلك الأكاذيب لبث الفرقة في الأخوة الأشقاء، فأمست خطرا يهدد الإخاء، ويعكر الصفاء، ويسوء إلى المغرب إساءة بالغة بتلطيخ أغر صفحاته، وتسويد أحسن عهوده في الإشراق والبياض؛ فكان لابد من إزالة تلك الأخطاء من تاريخ المغرب لكي لا يقع فيها أبناؤنا ومؤلفنا في المستقبل.

فابتدأت بالجزء الثاني والثالث وأرجأت الأول الذي يشتمل على تاريخ المغرب قبل الإسلام.

إن تاريخ المغرب قبل الإسلام وإن كان مهما حافلا بمناظر البطولة، ومجد أجدادنا، وفيه من المادة ما يترك أعظم الآثار في التلميذ والقارئ، وهو ضروري لمن يريد أن يعرف شخصية المغرب معرفة كاملة، فإن تأخير طبعه لا يضر قارئ ما طبع من هذا الكتاب، لأن الفتح الإسلامي بداية تاريخ جديد للمغرب، لا تنبني كل الأنبناء حلقات الفتح وتاريخ دولنا الإسلامية بعده عليه. وأرجو أن أطبعه قريبا فتكمل الحلقات.

وكان العمل في هذين الجزأين الثاني والثالث المشتملين على تاريخ المغرب في القرون الهجرية الثلاثة الأولى صعبا كل الصعوبة. إن الطريق في هذه العهود مطموس، والسبيل غير معبدة، وأغاب الذين كتبوا في تاريخ المغرب من المحدثين قد اغتروا بالمصادر الملوكية فرددوا أغلاطها!فعلي أن أكتب في تاريخ المغرب أبوابا جديدة معتمدا فيها على المصادر الصحيحة، وأسلك في طريق غير معبد، وآتي بشيء لم أسبق إليه مستعينا فيه بنتاج من مضى. وكان الله معي فتغلبت على العقبات، فتم الجزء الثاني تأليفا وطبعا، ويليه الجزء الثالث إن شاء الله، وأرجو أن أزفه إلى القراء بعد ثلاثة أشهر بحول الله.

إن هذا الكتاب (تاريخ المعرب الكبير) بأسلوب أدبي يحببه القراء، وبتحليل فلسفي يرضي العلماء، وببحث علمي نزيه يفرح به كل محب للحقيقة، ويسر به كل من له غيرة على المغرب. وسميته (تاريخ المغرب الكبير) لأن هذا الاسم هو الذي ينطبق كل الانطباق عليه، ويدل عليه الدلالة الوافية.

إن المغرب قبل الإسلام وفي عهود دولنا الإسلامية القديمة كان وطنا وحدا، يسنه جنس واحد، لم يعرف هذه التجزئة التي صار عليها المغرب الآن. كان وطنا واحد! فتجد زناتة وهي من قبائل المغرب الكبرى في طرابلس، وتجدها في الجزائر، وتجدها في المغرب الأقصى، وكذلك بقية القبائل المغربية الأخرى. وكانت الدول التي نشأت في المغرب الأقصى تشمل المغرب كله أو أغلب أجزائه، وكذلك ما نشأ في المغرب الأوسط يمتد إلى المغرب الأدنى، وما نشأ في المغرب الأدنى قد امتد إلى المغرب الأوسط والأقصى.

إن تاريخ المغرب القديم تاريخ واحد، وهو وطن واحد. فمن غرب الاسكندرية إلى المحيط الأطلسي، ومن بحر العرب إلى السودان، كله وطن واحد، يسكنه جنس واحد قد وفر الله له كل أسباب الامتزاج والاتحاد من الدماء الواحدة، والدين الواحد، والبيئة الطبيعية والاجتماعية الواحدة‼ وكان أجدادنا أينما حلوا في المغرب يعتقدون أنهم في وطنهم وفي آلهم!وما عرف هذه التجزئة إلا في العهد التركي وفي عهود الاستعمار الأخيرة. فأرجوا أن يعتبر كل أبناء المغرب أن انقسام مغربنا الواحد إلى أربعة أجزاء إنما هو انقسام العائلة الواحدة إذا كبرت، واتسعت، فاستقل كل من الإخوة الأشقاء في داره، وهم لأب واحد، وأم واحدة، وأسرة واحدة، لم يقسمهم ذلك التقسيم إلا ما يريدونه من توزيع المسؤولية لتعمل كل الأعضاء!

إن المغرب الكبير أسرة واحدة! وهو بحكوماته الأربعة كالطائرة العتيدة، لها أربعة أجهزة، وأربع محركات، تنطلق بها إلى الأجواء البعيدة لتحتل مكانتها بين النجوم‼

إننا لنرجو ـ وقد تحررت الجزائر ـ أن نرى المغرب الكبير يرجع إلى عهود أسلافه، فيكون على نظام فدرالي، وتحت حكومة عليا يختارها المغرب، فتجد العربية، ويجد الإسلام، ويجد إخواننا في المشرق العربي المغرب المتماسك الذي تضافرت جهوده، وكمل بعضه بعضا، فاصبح قاعدة الإسلام والعروبة التي لا تتزعزع، وسيف الله الذي يسلطه على أعداء الدين والعروبة فيبيدهم!

إن (تاريخ الغرب الكبير) سيكون إن شاء الله في عشرة أجزاء كبار:

الجزء الأول يشتمل على جغرافية الغرب الطبيعية والسياسية قبل الإسلام وما يبين شخصية المغرب وحقيقته وصفحات دوله الغراء في هذه العهود، وعهوده تحت الاستعمار وثوراته على المستعمرين القدماء، للحرية والاستقلال.

الجزء الثاني وهو هذا في الفتح الإسلامي وفي العهد الأموي في المغرب.

الجزء الثالث يكون في العهد العباسي في المغرب وفي الدول الإسلامية المستقلة في القرن الثاني والثالث الهجري: الدولة الرستمية، والدولة الإدريسية، ودولة بني واسول في (سجلماسة) بجنوب المغرب الأقصى، والدولة الأغلبية.

والجزء الرابع في الدولة العبيدية، والدولة الصنهاجية، والدولة الحمادية.

الجزء الخامس لدولة المرابطين، ودولة الموحدين، ودولة الحفصيين.

الجزء السادس لدولة بني مرين، ودولة بني زيان. ثم ينقسم المغرب في عهد الأتراك فتتسع جوانب التاريخ في المغرب، فلا يستطيع الفرد الواحد أن يكتب كتابة مستفيضة عن أجزائه كلها، فأضطر إلى حصر جهودي في الجزائر التي لازال أغلب تاريخها في هذه الفترة مجهولا.

فيكون الجزء السابع في العهد التركي في الجزائر وفي الاحتلال الفرنسي.

والجزء الثامن في مقاومة الجزائر للمحتلين وفي حروب الأمير عبد القادر الجزائري.

الجزء التاسع في جهاد الجزائر الإصلاحي والعلمي بعد الاحتلال، وفي نهضتنا العربية الحديثة التي ابتدأت في آخر القرن التاسع عشر المسيحي، فهيأت الجزائر لثورتها الكبرى!

والجزء العاشر في ثورة الجزائر وأدوارها وحال الجزائر في عهدها.

إنني بعد أن عجلت للقراء بالحلقات المظلومة من تاريخ المغرب، سأعجل إليهم بحول الله بالحلقة المجهولة من تاريخ الجزائر، وهو تاريخها من منتصف القرن التاسع عشر المسيحي إلى قيام ثورتنا. لقد كان في الجزائر في آخر القرن التاسع عشر المسيحي وفي أول القرن العشرين أبطال مصلحون هم الذين كونوا نهضتنا الحديثة، ودفعوا بالجزائر في طريق العوة والحياة، فبلغت النضوج الذي كون ثورتها الكبرى وأورثها الاستقلال! سأعجل بهذه الحلقة إن شاء الله ما دامت مصادر حية. إن أغلب مادة هذا الجزء توجد في رؤوس شيوخنا العلماء الذين ادركوا أولئك الزعماء، أوووا عمن يحفظ أخبارهم، ولا يوجد في كتب التاريخ منها إلا الشيء القليل. ثم يليه الجزء العاشر في ثورة الجزائر، سأعجل به أيضا مادام القائمون بها في الجبال، والذين شاهدوا معاركها وحال قرانا في عهدها على ذكر مما وقع. وإني لأرجو من حكومتنا الجزائرية أن تمدني بكل مساعدة في هذا الباب، فتطلعني على الوثائق الرسمية التي تبين تفاصيل ثورتنا وأسرارها، وتفاصيل معاركنا الكبرى مع المستعمرين. كما أرجو من جبال أوراس، وجبال القبائل، وجبال وانشريس، وجبال تلمسان وكل معاقل ثورتنا كل المساعدة إذا زرتها لجمع مادة هذا الجزء منها، ثم أرجع بعد هذا إلى الجزء الرابع متتبعا الأجزاء على التوالي إن شاء الله. وإني لأرجو أن أجد من إخواني في المغرب الأقصى كل المساعدة إذا زرتها لجمع مادة دولة الموحدين، ودولة المرابطين، ودولة بني مرين، كما أرجو أن أجد من تونس الخضراء العون والمساعدة في جمع مادة دولة الحفصيين، امدني الله بعونه وبلغ أملي في تأليف هذه الحلقات على أحسن وجه يبدي وجه أجدادنا الجميل، وصفحات مغربنا الغراء؛ كما أرجوا أن أجد من حكومتنا الجزائرية كل العون للاطلاع على كتب تاريخنا في أوربا، باريس وروما، ومدريد، وبرلين. فلزام على من يكتب تاريخ المغرب أن يتزود من هذه المكاتب الحافلة في أوروبا.

لقد اخترت لطبع هذا الجزء والذي يليه مطبعة من أكبر المطابع في القاهرة، واخترت له احسن ورق وجدته، وتحملت وحدي التكاليف المادية الباهضة، ورضيت  بنفقات الطبع الغالية ليكون الكتاب في مظهره لائقا بصفحات تاريخ المغرب الغراء، وعنوانا لبرنا بأجدادنا. فإذا وجد الاقبال من القراء، وسد مسدا في المكتبة العربية، وأصبح مصدرا لمعاهدنا العلمية في المغرب، فإن هذا سيكافئ الجهد الكبير الذي بذلته فيه، ويكون لي أحسن جزاء مع ما أرجوه من الجزاء الكبير عند الله.

وقد بذلت الجهد في تصحيحه، ولكن يستحيل أن يسلم إنسان من اللحن، وكتاب من الغلط المطبعي. قيل لعبد الملك بن مروان لقد شبت مبكرا! فقال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن! هذا في عهود الفصاحة، وفي الأيام العربية القحة، فما بالك بأيامنا التي شاعت فيها العجمة، وغرست فيها الصحافة والإذاعة والكتب الرخيصة أغلاطا شائعة في الألسنة صرنا لا نشعر باللحن فيها. وقد ورد عمرو بالواو في أول الكتاب وهو منصوب. إنه خطأ مطبعي لم أنتبه إليه.

وفي الختام أشكر والدي السيد الحاج علي بن عيسى دبوز فهو الذي مدني بنفقات طبع هذين الجزأين، وكان لي أكبر حافز على إخراجه. أسأل الله أن يمد في عمره إلى أن يرى حلقات الكتاب كلها يتم طبعها، ويجعل هذا العمل كنزا ثقيلا في ميزان حسناته. كما أشك الأساتذة والأصدقاء الذين أعانوني بخدماتهم وقووا عزيمتي على طبع الكتاب. واشكر معهد الحياة الذي كان هو السبب لإقبالي على كتابة تاريخ المغرب، ثم مدني بإجازة عام لأخرجه على أحسن الوجوه. وأشكر دار الكتب المصرية في القاهرة على إعارتي كل ما أريد من المصادر، واطلاعي على كل ما أشاء من المخطوطات، وما يغمرني به رئيس قاعة المطالعة، وأمناؤها، وكل موظفيها من احترام وإعزاز. كما أشكر (دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه) للطبع على ما وجدت فيها من نظام وإتقان للعمل، ووفاء بالمواعيد، وحسن في المعاملة.

حفظ الله مغربنا الكبير وأدامه متوجا بدينه وعروبته، رافلا في عزه وسعادته!وحفظ الله أمتنا العربية والإسلامية ورؤساءها المخلصين، ومتعها بالمغرب العربي المتحد الصفوف، القوي البنيان وعلمه واتحاده! والحمد لله على تأييده وعونه وحفظه في البدء والختام، والسلام على خير الأنام!

القاهرة (التوفيقية) مساء الثلاثاء 1 من ذي القعدة 1382هـ

                                      26 مــــــــارس 1963م

                                                                                             محمد علي دبوز                                                                    

[1]ـ هو أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي عاش في القرن الثامن الهجري وتوفي سنة خمسين وسبعمائة ، وكتابه قناطير الخيرات من أعظم الكتب في الأخلاق، وهو في ثلاثة أجزاء، والجزء الثالث خاص بالأخلاق، وهو أحسن ما ألف في المغرب في هذا الباب، ليت طبعه يعاد.

        واجهة وخلفية الكتاب

في ثلاثة أجزاء كبيرة تشمل على 1683 صفحة من الحجم الكبير. وهو يشتمل على تاريخ المغرب كله بأقطاره الأربعة : ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب.

الجزء الأول من العصر الحجري إلى الفتح الإسلامي.

الجزء الثاني في الفتح الإسلامي والعهد الأموي في المغرب.

الجزء الثالث في العهد العباسي والدول الإسلامية المغربية المستقلة.

ألف هذا الكتاب ببحث علمي نزيه، صفّى تاريخ المغرب المظلوم من أكاذيب السياسية القديمة، وخزعبلات المستشرقين والمستعمرين، وبتحليل فلسفي عميق، يريك الحوادث وأسبابها، والشخصيات والدول وعوامل عظمتها وانحطاطها، وبأسلوب جميل طليّ يحبب التاريخ إليك. وفيه أبواب مهمة كثيرة لا تجدها في كتاب. طبع في القاهرة طبعة أنيقة تروقك. يوجد في المكاتب الكبرى في دمشق وبيروت والقاهرة والجزائر.

العنوان

info@cheikhdabouz.com