القسم الأول
شخصيته في منزله وأسرته
نظامه اليومي:
كان عمله اليومي يبدأ في الثلث الأخير من الليل؛على الساعة الثانية صباحا غالبا، وتجد الشاي قد أعد له سابقا، وينكب في مكتبه؛ بعد التضرع إلى الله من أعماقه مادا يدي الضراعة والابتهال أن يحوطه بعين رعايته؛ ويمده من عونه.
كان عمله في الثلث الأخير ديدنه، سيما قبيل إصدار إحدى أعماله الأدبية، حيث يكون البال أهدأ،والذهن أنشط،والسكون يغري على العمل والتفكير والتركيز حقا،وحيث لا يسمع المرء إلا أنفاسه وحفيف أوراقه وكان يؤمن بجدية العمل في هذا الوقت ويحث عليه طلبته ويقول لهم << عليكم بالفرس الأدهم >>.
يستمر في عمله إلى صلاة الفجر، وفي بعض الأحيان يشغله عن اللحاق بصلاة الجماعة.ويؤنبه المؤذن الحاج محمد بن حمو ابن الناصر، ظانا أن النوم وحرارة الفراش قد استغوته.ويجيبه الوالد رحمها الله:إنني يالحاج محمد قد أحرقت لترين من الزيت[1] في الضوء قبل أذانك الأول "غيرو".
بعد الصلاة يغفو قليلا في فراشه ليستعد للعمل الجاد في الصباح، ويكون على الساعة السابعة في أتم الاستعداد للعودة إلى مكتبه؛ أو التوجه إلى معهد الحياة،حاملا محفظته الجلدية الحمراء التي ترافقه دائما، وفيها خلاصات الدروس ومفكراته التي أعدها في الليل. ويصل إلى المعهد قبل أوانه بأكثر من نصف ساعة،حيث يستعد للدرس برسم الخرائط وكتابة العناصر الأساسية، وفتح نوافذ القسم... يعود إلى المنزل في الزوال.وكان يتصف بمراعاة ملابسه، إذ يتخذ لكل حال لبوسها.وتبقى أكثر من عشر سنوات وهي في رونقها.
أما إذا عاد إلى مكتبه في المنزل؛ فإنه بعد الدعاء والتضرع، يتلو نصيبا من القرآن الكريم، ثم يخصص وقتا للمطالعة الأدبية فغالبا ما تكون الشعرية في ديوان المتنبي شرح أبي القاء العكبري، وديوان البحتري وغيرهما، أما النثرية فهي في البصائر والذخائر لأبي الحيان التوحيدي، ومؤلفات مصطفى صادق الرافعي، ومؤلفات الشيخ عبد القاهر الجرجاني سيما دلائل الإعجاز، وكتاب عصر المأمون للدكتور الرفاعي، وكتاب الأمالي لأبي علي القالي، وزهر الدب للقيرواني وغيرهما... كان يؤكد على المطالعة الأدبية ويحرص عليها، لأنها تحافظ على رونق أسلوبه، وتغذي ملكته. وتذكيها.
ثم ينكب على التأليف، إما ناسخا المادة التاريخية من آلة التسجيل، أو محررا لها،أو منقحا ومبيضا للباب.
عندما يشعر بالكد والتعب؛ يتجه إلى الكتابة الأدبية التي تستروح فيها نفسه. وغالبا ما تكون في الرسائل الأدبية إلى إخوان الصفاء، وبالأخص "الرباعي المرح" الذي يتكون من: الدكتور محمد صالح ناصر؛ والدكتور محمد بن الشيخ عدون شريفي ؛ والأستاذ ابراهيم مردوخ، والأستاذ يحي بن الشيخ أبو اليقظان، حيث يلج من خلالها باب الصفاء بكل متعها النفسية. التي يقول عنها:
<< إن أحسن المتعة ما يكون برسائل الأصدقاء، فهي سبب النشوة الكبرى والرحيق المختوم الذي لا يمل، والسحر الحلال الذي لا ينقص بهاؤه ولذته مهما طال>>[2].
عند الزوال يجلس للغذاء، ونتحلق حوله في وقار. ويسألنا عن أعمالنا الدراسية؛ ويتفقد أحوالنا الشخصية ، ريثما تحضر والدتنا قصعة الكسكس؛ يكون من القمح " إردن" أو من الشعير " تمزين" غالبا. ولا تكون من السميد إلا لماما في المناسبات. يؤكد عليهما لتوفرهما على المادة الغذائية العالية التي لا تكون في الأخير.وكان يحرضنا على تناول التمر في كل وقت وعدم الإحجام منه أبدا ويحرص كثيرا على اقتنائه من أجوده.
كان يحرص أن نتحلى بالآداب النبوية في تناول الطعام؛بداية من الجلسة المتأدبة ثم البسملة والحمدلة في الأكل والشرب،وتناول الوجبة باليمين،ومما يلي كل منا،والمضغ جيدا وعدم الإكثار من الكلامحتى نستمرئ بوجبتنا، ويأبى أن يترك أحدنا الطعام مما يليه أو كسرة خبزه.
لاينفض جمعنا إلا بقيامه، وكان يأكل الكسكس بيده يلقمه لقما،وتتولى أصابعه تكوير اللقمة؛وإرسالها إلى فمه بحذاقة، يا ما حاولنا تقليده فلم نفلحوعلينا أن نرفع أدوات الطعام إلى المطبخ، وإن تبقت لنا فسحة من الوقت، علينا غسلها وترتيبها في الخزانة.
يتجه بعد الغذاء ليقيلإلى أوان صلاة الظهر.ويطفئ ضوء مكتبه القوي الوهاج ويشعل ضوءا خافتا مهدئا الأعصاب ويجلس إلى مذياعه متتبعا الأخبار السياسية، وكان يقتني مذياعا كبيرا يجلجل صوته في أنحاء المنزل لأن سمعه أصابه وقر في آخر حياته، وقناته المفضلة هي "هنا لندن".
كان يرفض التلفزة رفضا قاطعا لا هوادة فيه، لأضرارها الوخيمة الجسيمة على الرابطة الأسرية المقدسة،ويراها الفاصمة لعراها،الأصيلة. والقاصمة لوقارها وسمتها الإسلامي المحتشم،والملهية ربة البيت عن واجباتها المنزلية،سيما خدمة الصوف،والأولاد عن واجباتهم الدراسية، والمضيعة للفرائض سيما صلاة المغرب من أجل "فيلم السابعة"،وصلاة الفجر من عناء السهر.
كلما حل في بيت أحد إخوانه إلا أمر بإطفائها، إلا إذا كان فيها الأخبار أو المصارعة أو الملاكمة؛التي يهواهاويحرض على تعلمها.
في الساعة التاسعة يتجه إلى فراشه، حتى يكون على موعد للقيام على الساعة الثانية صباحا، من عادته أن يتجه إلى فراشه مباشرة بعد تناول وجبة الغذاء أو العشاء؛ بل بعد أن يسير في المنزل أشواطا لقضاء بعض أموره؛أو متفقدا أحوالنا؛وأحوال المنزل مراعيا في هذه النقطة حالته الصحية، ولذا كان يحضناويهتم أن يأمرنا بإيصاد الأبواب وحنفية الغاز والماء، وتغطية أوعية الطعام والمؤونة، متبعا في هذا الأوامر النبوية.
لقد كان يشددعلينا في قضية تنظيف الأسنان، ونظافة غطاء المخدة حتى لا تتضررأبصارنا،وشد"لحفاية" على رؤوسنا وقاية لآذاننا وترك باب غرفتنا مفتوحا أو مواربا، وينهانا عن تغطية وجوهنا باللحاف، ويحثنا بقراءة خواتم القرآن قبل الاستسلام للنوم سيما آيةالكرسي، وكان يأمرنا بتعريض فراش نومنا كل أسبوع لأشعة الشمس يوما كاملا، وغالبا ما يكون هذا يوم الجمعة حين نقوم بتنظيف غرفتنا، وهكذا كان يقضي يومه، وكان يخصص يوم الجمعة للراحة والاستجمام أو ملاقات إخوان الصفاء.
غالبا ما يأخذنا في صبيحة يوم الجمعة إلى إحدى ضواحي القرارة أو بستان؛ لنعلب ونلهو ونتسابق في العدو والرماية، نزيل عنا وعثاء الأسبوع الدراسي، ويجلس هو تحت ظل جدار أو شجرة دارسا في كتاب أو متأملا حتى يحين وقت صلاة الجمعة.
في فصل الربيع نتوجه عائليا إلى بستان الشيخ أبي اليقظان – رحمه الله – في الضاحية الشرقية للقرارة " السحن"، أو إلى بستان الشيخ الحاج ابراهيم الأبريكي في الضاحية الغربية "إينورار" وغالبا نتوجه إلى الأول وإن كان أبعد مسافة، ونقضي فيه يومين أو بضعة أيام . كانت أحلى وأمتع وأغلى لحظات حياتنا، وما زلت أجد حلاوتها في قرارة نفسي أستمتع بها ولقد ترك هذان البستانان أثرهما النفسي فينا، وغالبا ما نتوجه إلى أحدهما قبيل الإمتحانات السنوية حتى نستعد لها، وأشهد أن لهما أياد بيضاء واضحة على دروسنا - ولا أنسى ذلك اليوم الذي - رجعنا فيه من الاستجمام في بستان الشيخ أبي اليقظان، وأمرنا الوالد بالإسراع إلى دروسنا وشرعت في مراجعة تمرين في النحو، كنت قد أتممت حله سابقافوجدت أني قد أخطأت فيه كليا، وكنت الوحيد الذي أجاب إجابة صحيحة في القسم.
اهتمامه بتربيتنا ونهجه في ذلك:
كان اهتمامه بالغا بتربيتنا، وغرس الفضائل فينا، ومكافحة الرذائل ، وكله عيون تحوطنا بالعناية والرعاية داخل المنزل وخارجه.
لم يكن يشغله عن هذا تراكم أعماله الأدبية بين معهد الحياة ومكتبه؛ للجمع والتأليف للمادة التاريخية التي تجهده كثيرا.
أكثر الفضائل التي اهتم بغرسها فينا أيما اهتمام؛وأولاها الأولوية هي:
أولا: الاعتماد على النفس.
ثانيا: الحزم والنشاط .
ثالثا: الانضباط في الأمور.
رابعا: خدمة الجماعة.
خامسا: مجالسة الكبار دون الصغار التي حنكتهم تجارب الزمن وعجمتهم.
سادسا: التقشف والتعود عليه.
نهجه في تقديم النصائح أنه لم يكن يقدمها لنا جزافا، في مر الكرام. من غير مناسبة وتهيئة للظرف الزماني والمكاني والنفسي.
بل كان يعقد لنا جلسة عائلية ودية في الوقت الذي يختاره ويراه الأنسب، يلتئم فيه شمل الأسرة حتى الجدين، يسمعنا في بدايتها الأناشيد الإسلامية من آلة تسجيله الكبيرة، وغالبا ما يجعلها مكافأة لعمل يأمرنا القيام به، ثم يقوم بتسجيل في الآلة الصوتية نماذج أعمال كل واحد منا الأدبية المتمثلة في محفوظاتنا الدراسيةالقرآن والحديث والمحفوظات...
بعد أن تنتشي نفوسنا بالأناشيد والألحان، وتتفتح بما تلوناه من آيات، يقدم ونحن متحلقين حوله النصائح الأخلاقية؛ والإرشادات التربوية أنناـ وما زلنا في نعومة أظافرنا ـ لا نفهم الأشياء ونتأثر بها بالمعقول والنظريات المجردة، بل نفهمها بالمحسوس والأمثلة المشخّصة، كان يبين لنا الفضائل في أمثلة محسوسة، سهلة الإدراك، وسريعة التأثير، في ثوب قشيب، وهيئة جميلة تجلب نفوسنا، ويتفتح لها وجداننا، ويصور الرذائل في هيئة مزرية قبيحة، نشمئز منها، وننفر عنها. يبين لنا أننا إن عملنا حسنا، فسنكون مثل هذا الفلان، شريفا عزيزا، محبوبا في قومه ، ذا مكانة مرموقة رفيعة، كل الناس تحبه وترغب فيه وتحترمه، وأننا سنجني كل الثمار اليانعة التي جناها، وأنه من المرضين عنهم عند الله، ومآله الفردوس الخالد، وأما إذا اقترفنا جرما، فسنكون مثل ذلك الفلتان، لئيما رذيلا، ممقوتا في قومه، لا يؤبه به، وحظه من الناس اللعن والنظرات الشزراء... ونتخبط في كل العواقب الوخيمة التي يتكبدها من أجل ما ارتكبت يداه، ومصيره الجحيم يبوء به إلى الأبد الآبدين.
هكذا في لحظات نعاهد أنفسنا في الحلقة ونآلي علينا إيلاء، أن لا نكون إلا كذلك الشريف العزيز المرضي عنه في العليين.
كان يقدم لنا النصائح في أسلوب شيق؛ يؤثر في نفوسنا ؛ ويستحوذ بمسامعنا، يشعر الواحد منا أنه كله آذان صاغية له.
كانت كلماته تخرج من أعماقه متوهجة ملتهبة حماسا، في أسلوب خطابي؛ ونبرات قوية؛ تنبعث من كل حواسه، سيما نظراته المتقدة الثاقبة.
بقدر ما يتحمس كلّ التحمس للفضيلة، يستهجن الرذيلة، وينفجر كرها لها، يحاول بكل مشاعره وحواسه أن يصورها لنا في قبحها و وخامتها أقبح صورة.
كان يراعي ضرب الأمثلة التاريخية الفاضلة من سيرة المصطفى3وسيرة الصحابة الكرام؛ ثم من سيرة مشائخ وعلماء الجزائر وميزاب، ويركز على سيرة أجدادنا حتى نتعرف على تاريخهم المجيد وتاريخ أسرتن، كان يبين لنا أننا من أرومة فاضلة شريفة ومن معدن طيب زكي وأصل مجيد، وكانت أسرتنا تلقب قديما بآل عيسي بن حمو نسبه إلى جدنا الرابع.
وياما كان يقول لنا ويؤكد حتى حفظنا قوله:ليكن في علمكم أن كل أسرة " آل عيسى بن حمو" ليس فيها لئيم واحد، ويعبر عن لفظه اللئيم "الخردة" وهو أبلغ.
كنا ننتشي انتشاء بسيرة أجدادنا وفضائلهم العظيمة، نشعر بالعزة تحملنا بأجوائها بأجنحتها الخافقة ويعلمنا أن اهتمامهم بمخبرهم دون مظهرهم هو سر عزتهم وأس أصالتهم.
لا ننسى ذلك اليوم الذي في أهبة للزفاف أخوي الأكبر مني مصطفي وعبد الحميد، 15 أفريل 1979 عقد معهما الوالد - رحمه الله - جلسة بانفراد في مكان هادئ وبين لهم فيه" دستور الحياة الزوجية الاجتماعية الناجحة.
عدد لهما الأسس التي يجب أن يبنيا حياتهما الزوجية، ابتداء من الوهلة الأولى في المخدع الزوجي بليلة الزفاف وياليتني أجد فسحة في هذا الكتاب حتى أذكرها لجلال فوائدها وأشهد وأنا على يقين وصدق أني لم أصادف كتابا أو درسا تناول لأسباب السعادة الزوجية كما سمعتها في تلك الجلسة بواسطة الشريط المسجل.
قد حرص الوالد على تسجيلها، بين لهما الركائز التي يبنيان عليها حياتهما الاجتماعية وأهمها:
أولا: تقوى الله في كل شيء وحين ومكان.
ثانيا: المحافظة على الصلوات الخمس بكل شروطها في المسجد، والحفاظ على تلاوة القرآن.
ثالثا: طاعة الوالدين واحترامهما والإحسان إليهما.
رابعا: الاعتماد على النفس.
سادسا:الانضباط في الأموروالنظام، والمحافظة على الوعود والعهود.
سابعا:خدمة الجماعة، وعدم التقوقع، وتفضيل المصلحة العامة على الخاصة.
ثامنا: مراعاة الكسب الحلال، وإنه من أسباب الصلاح التوقي من الكسب الحرام.
تاسعا: الإحسان إلى الزوجة.
عاشرا: التقشف في الجانب المادي وعدم الانقياد للمغريات.
إلى غيرها من النصائح الذهبية.
بخصوص النصيحة الأخيرة، كان يؤكد لكل واحد منا، أن يبني منزله قبل الثلاثين من عمره، حيث يتعذر له هذا بعد ذلك؛ لتكاثر مصاريف أسرته عليه، ولارتفاع الأسعار كل حين. أو يقول - رحمه الله - << ليكن في علمكم يا جماعة من لم يبن داره قبل هذا الوقت،فسأطلب منه الخروج من منزلي>>، وهذا التهديد "مجازي" وليس حقيقيا، وهو كناية عن التحريض وشحذ الهمم، ثم يقول لنا بنبرة مهددة: << اياكم ثم اياكم والوقوف أمام واجهات المحلات التجارية، والتملي فيها وسيكون حسابكم معي عسيرا جدا، وليكن نظركم في شارع الدكاكين دائما إلى الأمام، التقشف ثم التقشف ياجماعة حتى تستطيعوا أن تكونوا رجالا تقارعون الأنداد>>.
كان يعودنا الاعتماد على النفس في كافة أمورنا الشخصية، بل ونشارك في أمور المنزل ومهامه، عند اقتضاء الضرورة، وكنا نجري الإصلاحات في المنزل بالقرارة وديارنا في بريان عند صيف كل سنة ثم طلاءها ودهنها، ولقد تعلمت وأنا صغير مهارة صقل الجبس "بالمالج"، "المصقلة" من والدتي، لما كانت تقوم بهاته المهمة ثم كفيناها إياها لما اشتد عودنا.
في ذلك الحين كانت المياه القذرة تنساب إلى بئر المنزل المعدة لهاوهذا في القرارة. وغالبا ما تمتلئ يتعذر غسل الملابس في النزل، ونكلف بغسلها خارجه وهي ملابس كافة الأسرة، وهذا في البساتين البعيدة.
كما نكلف بالمشاركة في تنظيف مرافق المنزل بطوابقه المتعددة وترتيبها، ونحن عندما نتولى المشاركة في هاته المهام، التي هي من اختصاص الوالدة - حفظها الله - والأخوات لا ليركن إلى الراحة والاستجمام، وكثيرا ما كان يذكرهن الوالد بمقولة أبيه الحاج علي دبوز لأسرته « لأن تأخذن المعاول وتهدمن سواري المنزل، حين لا تجدن ما تفعلنه خيرا لكن من جلوسكن بلا عمل ».
لقد كن يشتغلن بخدمة الصوف والمنسج، التي يبدأن فيه من السحر قبل صلاة الفجر، ولا يتوقفن إلى صلاة العشاء إلا للاستراحة وقت القيلولة أو في يوم الجمعة وهو يحب أن تكونالمرأة حازمة، عمالة مثالا في النشاط والحرص كثيرا ما يجتمع في منزلنا أكثر من منسج أحدهما لوالدتي، والآخر لأخواتي الثلاث كلما أتممن واحد، إلا وشرعن في آخر وهذا مع اشتغالهن بالخياطة وتوابعها من طرز وغيرها، دون أن يفرطن في دروسهن وواجباتهن المدرسية.
كان يهتم على تمريننا على الطبخ فيكلف في الجمعة أحدنا بتحضير وجبة الغذاء أو العشاء، طبقا للوصفة التي تقدمها الوالدة - حفظها الله -.
اهتمامه بأوقات فراغنا والمطالعة
إنه يعلم أن الفراغ مفسدة، حيث تحبك عليه حبائل شياطين الجن والإنس، لذا اهتم بملء أوقات فراغنا بالعمل الجاد المفيد، وإن أمقت شيء لديه هو التسكع في الشوارع، ولعب الكرة التي يراها الكبرى ، والطامة العظمى على الأبناء والشباب، دائما يندد عنها في دروسه وخطبه لعلمه بالرذائل التي تكتنفها سيما تضييع الصلاة والشتم وارتكاب المحرمات، وهتك الحرمات وغيرها ولعل عذره في هذا، أن الكرة في حينه لم تكن مؤطرة تحت إشراف الجمعيات، التي ترعى الآداب الإسلامية والأخلاقية الفاضلة وأوقات الصلاة، بل كانت تلعب عشوائيا في الشوارع، وضواحي المدينة بلا رقيب، كان أحدنا إذا لعب الكرة في الشارع فقد اقترف جرما شنيعا فادحا، لن يغتفر له، ومصيره العقاب الصارم هذا إذا لم يستمع للنصح.
لقد كان- رحمه الله - يحدد لنا طريقنا إلى مدرسة الحياة أو إلى أي غرض آخر ويبين لنا السبل التي يجب أن ننهجها في ذهابنا وإيابنا.
طريقنا إلى مدرسة الحياة هو شارع الحاج محمدبن إبراهيم المرموري أو الشارع الشيخ بيوض ثم نعبرالسوق العلوي، وحذاري من السفلي!. ومنه إلى شارع الشيخ عدون في الجهة الشرقية.
ويؤكد لنا دائما لنا أنه قد رصد العديد من الأعين، لتراقب حركاتنا وأخلاقنا في الشارع وكنا نؤمن بقوله. وكلما رأينا أحدا ينظر إلينا قلنا << ذلك عين من العيون أبي فيا نفس احذري>>.
ليت شعري. إلى الآن لست أدري، كان ذلك حقيقة ؟ أم هو من باب التخويف والإيهام؟.
كان يحدد لنا زمن الذهاب إلى المدرسة والوقت الذي نستغرقه في الطريق. كان – رحمه الله – يملأ فراغنا بالعمل في البستان؛ الذي يراه مدرسة الرجال سيما ارتقاء النخلة أو المطالعة الأدبية وهو الذي يتولى اختيار مانطالعه.
بفضل علاقته الوثيقة مع صديقه الدكتور محمد عطية الأبراشي في مصر المختص في علم نفس الطفل؛ فقد بعث إليه بإيعاز منه طردا في أوائلالسبعينيات؛ يحوي على أكثر من ثلاثمائة وخمس وستين قصة؛ للأبراشي نفسه أو لكامل الكيلاني أو لعادل غضبان أو غيرهم.
وكان يقدم لكل واحد منا القصة التي تناسب مستواه؛ ويأمرنا بقراءتها بتمعن مع شرح مفرداتها وتسجيلها في دفترها؛ وجعلها في جمل مفيدة وقبل أن يقدم لنا القصة الثانية يجري علينا أسئلة في معاني وأسلوب مفردات الأولى؛ ليسبر مدى إلمامنا بها.
كنا نقبل عليها بنهم وشغف شديدين، وكثيرا ما كنت أعرض عن الغذاء والعشاء، عندما يرتفع النداء حتى لا أقطع لذّتي بها، ولا أنسى ذلك اليوم الذي اهتز فيه معلمي في المدرسة الرسمية طربا لإنشائي الذي بدى فيه أثر المطالعة جليا. ومن ذلك الحين أصبح يتصدر إنشاءات صفي وينوه به. والفضل لله والمطالعة، ولما استهلكت ما اقتناه لنا أبي للمطالعة صرت أستعيرها من خزانة الأستاذ الشيخ بالحاج عيسى بن محمد بواسطة زميلي ابن عمه "قاسم" سيما روايات تاريخ العرب والإسلام لـ"جرجي زيدان" وكان أبي يتتبع أمري ولما انتهيت من مطالعتها بتمامها الاثنين والعشرين كتابا. قال لـي ـ رحمه الله ـ : ( ليكن في علمك يا بني أن القصص و الروايات تكمن فائدتها في اكتساب ملكة المطالعة فقط أما وقد امتلكتها، فعليك بالكتب الأدبية الدسمة: جواهر الأدب للهاشمي ووحي القلم للرافعي وزهر الآداب للقيرواني وغيرها..... ). ثم قال موضحا ( فلتعلم أن من يطالع الروايات كمن يمص أصبعه ليرضع منه حليبا )
ماأسرع أن اقتني لي هاته الكتب من مكتبه معهد الحياة، وهي أعز ما في مكتبتي، وأنا آنئذ لما أبلغ الحلم .
كان يبين لنا هيئة المطالعة وكيفيتها، بأن يكون مستوى الكتاب دائما دون مستوى العين لا فوقها حتى لانجهدها، وأن يكون الضوء كافيا 60 w فما فوق ومن فوق الكتاب لا وراءه ، ولا نطالع في ضوء الشمس،وتغليف الكتاب والمحافظة عليه وعدم طيه أمور ضرورية .
نهجه في العقاب:
إذا ارتكب أحدنا ما يستحق به العقاب، أو وقعنا فيه كلنا. فلم يكن - رحمه الله – يبادرنا بالعقاب العشوائي الجزافي بالصفع والركل والشتم ... وكأنه يشفي غليله منا لا قصد تربيتنا، مما يشعرنا نحوه بالمقت والكره لا قدر الله ! بل كان يعقد جلسة؛ يجمع فيها شملنا، وإن جلب معه أداة العقاب فإنه يخفيها تحت عباءته حتى لا نشعر بها، وتجعلنا لا نعي نصائحه رهبة منها. ويبين لنا وخامة الرذيلة التي اقترفت، وعواقبها الوخيمة القبيحة علينا بمنهج وأسلوب حكيمين؛ يجمع بين الحذق في كيفية إيصال الفكرة إلى وجداننا، وتهويل الرذيلة وتصويرها في أبشع صورها، حتى يتيقن المخطئ منا في قرارة نفسه جرم ما ارتكبت يداه؛ وفداحته عليه وعلى الآخرين، وإن كان هناك عقاب فإنه يستحقه بما جنت عليه يداه.
لما يرى ـ رحمه الله ـ أن العقاب ضروري فإنه لا يوقعه إلا في مكانه الشرعي، ويتحاشى المواضيع الحساسة، مثل الوجه والبطن والصدر والرأس وغيرها. وقعه يكون حسب عمر المرتكب ودون ضرر. وحذاري للوالدة أن تظهر الشفقة له بل تبين أنه يستحقه، اتقاء أن تشعره بأن والده قد ظلمه أو تعدى عليه، وتأتي فائدة هذه الجلسة أن الوالدين يتفقان في مكافحة الرذيلة. وليعم النصح كافة أفراد الأسرة ويرتدعوا بالعقاب.
أداته للعقاب لم تكن واحدة لجميع أبنائه وبناته، بل يتخذ لكل صنف الأداة التي تليق لهم.
فبناته الصغيرات، أداتهن تتكون من سيور هينة مشدودة إلى عصى المعروفة بـ "بولالة" وقعها لطيف هين يليق بهن. أما أبناؤه الذين لم يبلغوا الحلم فيتخذ لهم سوطا صغيرا، أما الذين تعدوه فلهم سوطهم الذي هو أنكى من سابقه وأقذع، هذه الأدوات هي دائما معلقة بمكتبه في موقع أنظارنا حتى تردعنا . هكذا كان ـ رحمه الله ـ يعالج هذه القضية الحساسة بحكمة بالغة لا تهور فيها، تشعرنا بفائدة العقاب علينا.
تمسكه بالهندسة والسمت الميزابيين
كان ممتلئا إعجابا بالهندسة الميزابية؛ سيما الخاصة ببناء المنازل، ويدرك الحكم العظيمة والأهداف السامية التي بنيت من أجلها مرافقه الحيوية وبعد نظر أجدادنا، إنه لا يكل عن تعديد مزاياها الجليلة في دروسه، آمرا بالاحتفاظ بها، والعض عليها بالنواجد لأنها رمز أصالتنا. وينهي عن الميل إلى الهندسة المستوردة القاصرة، التي لا تجعل للميزابي منزله مكيفا متكيفا. وتضر بمصالحه أيما تضرر!
ومن المميزات التي كان ينوه بها، أن أجدادنا يجعلون الردهة الأرضية فسيحة؛ ويجعلون في السقف شباكا واسعا في كل طوابقه حتى تسطع أشعة الشمس في سائر أرجاء البيت، وهي العماد الأساسي الأول للجانب الصحي وليكون مكيفا بالهواء الطلق. وليجد أولاد رب البيت المكان الذي يلعبون؛ فيه تحت مراقبته؛ ودون أن ينتهكوا الحرمات في لعبهم بالشارع، الذي هو مظنة لاكتساب الكثير من الخبائث، إلى غيرها من مميزات التي تحتويه هذه النقطة.
وكم من مرة أجرينا نحن أبناؤه إصلاحات في دارناببريان، وحالنا هدم مدخنة المطبخ ورمي أثافيها السوداء بعيدا . وهدم الطاحونة الحجرية، وقلع الأغصان المشدودة إلى الجدار لوضع الأغراض فيها. وهي في نظرنا تزري بمنظر دارنا.
وكان يغضب الغضب الكبير علينا!ويرفض الرفض القاطع الذي لا هوادة فيه! ويبين لنا أن الزمان لا تحمد عواقبه؛ ولا يؤمن شره. وأنه سيحل على الجزائر زمان يجد الجزائري نفسه محروما من كل المميزات التي يتمتع بها حاليا؛ مثل الغاز والكهرباء؛ والمؤونة التي تصلنا من خارج ميزاب سيما الدقيق، ولا يجد ما ينفعه إلا هذه المدخنة؛ لطبخ طعامه بالحطب. وستكون أثافيها أعز عليه من الجواهر، وإلا هذه المطحنة لطحن القمح لمؤونته. وكان يحتفظ دائما الكثير من القمح احتياطا لهذا الزمان. وتعهدها بالحفظ والمراقبة دوما.
وكان قلبه يحز الألم المرير؛ عندما يرى الميزابي يبني داره بالإسمنت والهندسة المستوردة؛ التي لا تناسب الأصالة الميزابية، ويتأسف له بالغ الأسف.
بقدر احتفاظه بالهندسة الميزانية، كان يحتفظ بالسمت الميزابي احتفاظا كبيرا، سيما العباءة؛ والقبعة؛ والسروال؛ والعكاز؛ واللحية التي تزيد للميزابي جلالا ووقارا وجمالا. يأمرنا دائم بالمحافظة عليها .
كان يوصيني عند سفري إلى جانب اصطحاب القشابية أن آخد معي زاد الطريق يكفي لخمسة أناسأجد ماأقريهم به في الطريق. ودائما كان يصطحب معه في الحافلة في الصيف وعاء ذا عشر لترات من الماء البارد ليقدمه للمسافرين في الطريق.
كان يشدد علينا بمرافقة العكاز أو ( الدبوز ) عند خروجنا في الليل. وعدم الاطمئنان.ويبين لنا فائدتهما، أن الذي يحمل أحدهما يستطيع أن يتغلب على المتعدي بالخنجر أو المسدس أو غيره. وهي أفضل السلاح للدفاع عن النفس، ولقد اقتنى لي عكازاً من الزيتون من قسنطينة و(دبوزاً) من شجرة صحراوية جلبه له أحد الأعراب وعمري لايتجاوز الرابع عشرة سنة.
كان يأمرني بمصاحبة (الدبوز) عند توجهي في الليل إلى جمعية الشباب بمعهد القرارة، أحيانا أحاول مداراته حتى لاآخذها خجلا منها. ولكن عيونه تكون لي بالمرصاد.
ياليت شعري هكذا كان رأيهم في الإبقاء على المطبخ التقليدي والمطحنة الحجرية ومصاحبة العكاز(الدبوز) في الليل في السبعينات لما كان الرخاء والأمن يعم ربوع الجزائر والدينار الجزائري ذات قيمة عالية، فما حسبنا اليوم الذي تدهور فيه الدينار إلى أدرك المستويات، وعم الغلاء الفاحش، وتأزم الأمن في كافة ربوع الجزائر إن المقارنة بين السبعينات والتسعينات وربطها بآراء الوالد- رحمه الله- غني عن التعليق.
رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
[1]كانت مصابيح الإضاءة توقد في ذلك الحين بالزيت أو البنزين.
[2]رسالته إلى الرباعي المرح الاثنين 18ر